الدكتاتوريات العربية تتساقط فمن التالي ؟

انفجرت الأوضاع في كل من تونس ومصر كبركان حارق، تمكن في الأولى من إنهاء حقبة استبدادية دامت حوالي 23 سنة، ويستمر هادرا في الثانية يدفع حممه الغاضبة نحو كل الساحات لإسقاط نظام حسني مبارك، الذي احتكر السلطة والثروة وجوع شعب مصر لأكثر من ثلاثة عقود. 
فهل نحن أمام صحوة شعبية عارمة قررت بعد تراكم الخيبات والانكسارات أخذ زمام المبادرة للتخلص من نظم قهرية وسلطوية؟ وما هي العبرة والدرس بالنسبة لباقي البلدان العربية، التي لا تختلف كثيرا عن البلدان التي تشهد اليوم ثورات شعبية؟ وهل الحكمة تقتضي الانزواء بعيدا بحجة أننا في منأى عما يقع من هزات اجتماعية؟ إن فساد النظم السياسية واستغلال السلطة واستخدامها في قهر الشعوب واستنزاف خيراتها وضعف التنظيمات الحزبية وغياب العدالة وارتفاع نسب البطالة والفقر والتهميش، كلها مظاهر لصيقة بالحالة العربية، ولم تنفع التقارير التي درجت العديد من المنظمات الوطنية والإقليمية والدولية على إصدارها، في حمل القيادات العربية على التراجع عن سن سياسات كارثية أغرقت البلاد العربية في مستنقع أزمات بنيوية.
إن الشعوب العربية التي تمر اليوم في لحظة حاسمة في تاريخها لم تتوان عن تقديم أغلى التضحيات من أجل الكرامة والديمقراطية، ولائحة الشهداء وقائمة المعتقلين السياسيين والمنفيين قسرا عن أوطانهم، دليل على أن التطلع إلى بناء نظم ديمقراطية لم يخب في يوم من الأيام، غير أن ما نشهده اليوم في كل من تونس ومصر والأردن واليمن هو شيء جديد وغير مسبوق في حركة الشارع العربي.
فقد شهدنا احتجاجات اجتماعية مطلبية شاركت فيها الأحزاب السياسية والنقابات العمالية والحركات الطلابية، وكانت هذه التظاهرات في معظمها مناهضة للأوضاع المتردية اجتماعيا، وكان نفس الاحتجاج ضد الفساد قصيرا بحكم شراسة ودموية القوى الأمنية التي كانت لها صلاحيات مطلقة في استعمال الرصاص الحي لإخماد كل أنواع التمرد، نقول هذا، لا لننفي عن القوى الأمنية في الوطن العربي طابعها القمعي الذي استمر ملازما لها، والذي صار بفضل وسائل الاتصال الحديثة مكشوفا، لكن وكما لاحظنا في كل من تونس ومصر فإن هذه القوى القمعية قتلت وروعت المواطنين لبث الهلع والخوف بداخلها، أملا في كسر إرادة الشارع، لكن صمود الشباب الغاضب قلب المعادلة وفوت الفرصة على حماة النظم البوليسية في إعادة تشغيل عقارب أزمنتها البائدة.
هناك أيضا معطى أساسي ساهم في سقوط نظام بن علي، وفي قرب سقوط نظام حسني مبارك، وهو موقف المؤسسة العسكرية التي حرصت على عدم الاصطدام بالمتظاهرين. وتتبعنا عبر الشاشات كيف أن أفرادا من الجيش شاركوا المتظاهرين في أعراس الحرية وانحازوا إلى مطالبهم العادلة.
إن هذه الصورة التي عكستها المؤسسة العسكرية، سواء في تونس أو في مصر، ستظل محفورة في ذاكرة الشعوب العربية، وحتما سيقوي هذا التعاطي الوطني العالي للمؤسسة العسكرية مع الاحتجاجات السلمية والمطالب المشروعة مكانتها، وسيقود كذلك إلى إعادة تعريف دور هذه المؤسسة التي يجب أن تظل فوق الصراعات السياسية وعلى مسافة واحدة من كل أبناء الوطن، سواء كانوا في الحكومة أو في المعارضة، في السلطة أو خارجها.
إن حفاظ المؤسسة العسكرية في تونس على مسافة من نظام بن علي، وعدم الانزلاق والاستجابة لأوامره الطاغية، جعل تونس تحقق أهدافها بأقل الأضرار، وهو نفس الشيء الذي نراه يتكرر مع الثورة المصرية. إن الثورات التي شهدتها أوروبا الشرقية وعصفت بالعديد من النظم الحديدية نأى الجيش فيها بنفسه عن القيام بدور الحامي لتلك النظم التي تعفنت وانتهت مدة صلاحيتها. إن وظيفة الجيش كما أكدت الأحداث هي حماية أمن الأوطان لا حماية الاستبداد والفساد.
إن الأحداث النوعية التي بات العالم العربي مسرحا لها وطبيعة الدور الذي قام به الشباب الثائر، الذي ظلت البرامج الرسمية تستخف بوعيه ونضجه، فاجأ الجميع بإرادته الفولاذية وبوضوح الشعارات التي تؤطر حركته الاحتجاجية، فإزاحة الديكتاتوريات التي غالت في القهر ولم تحسن الإصغاء إلى التفاعلات التي ظلت تعتمل داخل الأوساط الشعبية، بانت على قائمة المطالب الحتمية وغير القابلة للتأجيل.
إن اللحظة التي تمر فيها المنطقة العربية تعتبر لحظة حاسمة، لحظة تغير شامل يؤشر الى نهاية مرحلة بائدة سيطرت فيها النظم الشمولية وبداية مرحلة جديدة، تلخصها المطالب الواضحة للجيل الجديد الذي قاد التغيير وأبان عن نضج عال، وفاجأ مختلف التنظيمات الحزبية التي بدت متجاوزة أمام خزان التضحيات الذي أبدى الشباب استعداده لتقديمه من أجل انتصار الحرية والديمقراطية.
إن الحراك الشعبي الذي تشهده المنطقة العربية وحولها إلى لهيب ساخن، أبان أن قوة الشعوب لا تقهر وأن القمع والعنف جبان أمام جبروت الشعوب حينما تأخذ زمام المبادرة.
إن النزال المشتعل بين المشروعية الشعبية والأقلية الفاسدة حتما سينتهي بهزيمة الديكتاتورية وانهيار النظم الشمولية. رأينا ذلك في معظم الثورات، ورأيناه اليوم مع الثورة التونسية التي دفعت نظام بن علي نحو الهروب الذليل مع عصابته الإجرامية، وها هي مصر على الطريق تواصل احتجاجها ولا تكترث بمحاولة الرئيس مبارك الالتفاف على مطلبها الوحيد، وهو رحيله عن السلطة. والغريب أن مبارك الذي يدرك أن نظامه انهار يصارع ويناور على طريقة نظام بن علي، الذي لم يجد بدا من الانحناء أمام عاصفة الشعب التونسي، وهو الشيء الذي حاوله مبارك حينما أعلن تنحيه عن السلطة حين انتهاء ولايته في أيلول/سبتمبر المقبل، ورغم أن إعلان الرئيس المصري لم يرق للمتظاهرين، واعتبر من أطراف معارضة كثيرة عبارة عن مناورة سخيفة، فإنه تعبير عن فقدان النظام لكل الأوراق التي راهن عليها، ومنها الدعم الأمريكي الذي صار يتحول لصالح انتقال سريع للسلطة، ولعل الطلقة الأخيرة لمبارك تمثلت في نزول عصابات غريبة عملت على بث الرعب والفتنة في أوساط الشباب المعتصم في الساحات، لثني المحتجين وترهيب النساء والأطفال للبقاء في منازلهم.
إن الأمريكيين ورغم أنهم لم يطالبوا صراحة برحيل مبارك، لكن متابعتهم لثورة الشعب المصري وارتفاع منسوب المطالب من رحيل الرئيس إلى المطالبة بمحاكمته على الجرائم التي ارتكبها طيلة ثلاثة عقود في حق المصريين، جعل الأمريكيين يقتنعون بأن زمان مبارك ولى وأن صفحة الاستبداد طويت وأن ساعة الحرية والديمقراطية دقت بقوة في سماء أكبر العواصم العربية. ولعل حذر الأمريكيين الذين يعتبرون الحليف الداعم لنظام مبارك راجع بالأساس إلى طبيعة مصر وموقعها الإستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط، وما يمثله النظام المصري من حماية لإسرائيل وأمنها.
إن الأمريكيين أدركوا أن رياح التغيير هبت هذه المرة قوية في المنطقة العربية، وأن المنطق يفرض مجاراة ذلك ومراقبة تطورات الأمور وعدم الوقوف في وجه الشعوب المطالبة بالحرية والكرامة والديمقراطية، إن الأمريكيين لا يريدون السقوط في زلة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي لم يدخر جهدا في التغني 'بديمقراطية' النظام التونسي، ودعمه اللامشروط لزين العابدين بن علي. إن الغرب وكما كان ليست له صداقات دائمة، بل له مصالح دائمة. والغرب لا يمكن أن يستثمر في نظم أصبحت أوراقا محروقة وبالية. إن تعاطي الغرب مع النظم التي تساقطت كأوراق التوت يعد درسا لكل النظم العربية التي أدارت ظهرها لشعوبها وراهنت على الدعم الخارجي لحمايتها، فقد تتبع العالم كيف أغلقت أجواء السماء في وجه طاغية تونس، ومن طرف حلفائه المقربين، وهو أمر يفرض على البلدان العربية التي يتجه نحوها بركان وموجة الاحتجاج، جراء الانسداد السياسي وسوء الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الإسراع بالإصلاحات الجدرية اللازمة قبل فوات الأوان. إن الوطن العربي يشهد حالة حراك شعبي عارم، يلعب فيه الشباب والأجيال الجديدة دورا مهما، فالأمر مختلف عن كل ما عشناه في الأعوام الخالية من حركات احتجاجية، فالمطالب السياسية والاجتماعية تشكل اليوم زوجا غير قابل للتجزيء والشعوب العربية أبانت عن إصرار كبير من أجل التغيير.
إن الأحداث المتعاظمة في كل من تونس ومصر والأردن واليمن والسودان، التي قد لا تستثني بلدا من البلدان العربية، تفرض على المغرب عدم الانغلاق وراء لغة المقارنات التي تبقى من وظائف البحث الأكاديمي ومن اختصاص علماء السياسة وعلماء الاجتماع في نظريات التغير والتحول الاجتماعي. أما المسؤولون المغاربة فعليهم استباق الأحداث والإسراع بالقيام بحزمة إصلاحات سياسية ودستورية حقيقية تقطع مع مرحلة انتقالية تحولت إلى دورة سياسية مأزومة ومعاكسة لتطلعات المغاربة في الحرية والديمقراطية والعيش الكريم.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...