التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني: قراءة في وثيقة سرية للمخابرات الامريكية CIA



قبيل انقضاض حلف الناتو على يوغوسلافيا عام 1999 تسربت وثيقة لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية  تحمل تصنيف سري جداً حول خطة عمل محددة لتمويل هيئات المجتمع المدني في يوغوسلافيا السابقة (قبل تفكيكها) للتعجيل بإسقاط نظامها ونشر القيم الأمريكية تحت عنوان: "دولة صربية ديموقراطية". وكانت الوثيقة التي تحمل ختم مؤسسة البلقان/ المخابرات المركزية الأمريكية قد صدرت أولاً بتاريخ 16 ديسمبر 1998 مما يجعلها جزءاً من الحملة المعلنة والمستترة لتحقيق الأهداف الاستراتيجية الأمريكية في منطقة البلقان.


وبغض النظر عن أية ملاحظات أو انتقادات على النظام اليوغسلافي السابق عشية مواجهته مع حلف الناتو، وهي كثيرة دون أدنى شك، فإن سوء حظه العاثر وموقعه الجغرافي السياسي، ورغبة حلف الناتو بابتلاع أوروبا الشرقية برمتها كما ظهر لاحقاً، جعل التخلص من يوغوسلافيا وتفكيكها هدفاً استراتيجياً لحلف الناتو بقيادة أمريكا. وقد جاءت خطة عمل السي أي إيه أدناه على إيقاع معادٍ تماماً للدولة المركزية التي تقف موضوعياً كعائقٍ إقليمي بوجه العولمة والهيمنة الخارجية بغض النظر عن رغباتها أوعيوبها.

ومن هنا، فإن الوثيقة أدناه تقدم نموذجاً كلاسيكياً لاستخدام التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني في عملية التفكيك والاختراق في كل مكان على مستوى لا يدركه من يتناول مسألة التمويل الأجنبي من منظور وجود أو عدم وجود شروط للتمويل في هذه الحالة الجزئية أو تلك الحالة المنفردة.

فالقضية ليست ما إذا كانت هناك شروط محددة من المانحين لتمويل هذه الحضانة للأطفال مثلاً، أو ذلك البرنامج لزيارة الصحفيين لأمريكا أو تلك المنظمة غير الحكومية المعنية بالبيئة أو المرأة أو الحريات او الاشراف على تمويل تربص اودراسة اشخاص بعينهم  في مجالات غير تخصصاتهم خارج بلدانهم ، بل غالباً ما لا تكون هناك شروط محددة تمكن الإشارة إليها بالسبابة. وإذا كان الشيطان يكمن عادة في التفاصيل، كما يقال، فإن شيطان التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية يكمن في الصورة الكبيرة، وفي النتائج بعيدة المدى على المستوى الاجتماعي-السياسي  لإقليم بأكمله، فمن يقترب كثيراً لا يراها. ولكن الوثيقة أدناه تساعد على ضبط منظورنا لمسألة التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية ضمن هذا السياق:

الصورة الكبيرة.

على سبيل إيضاح مفهوم الصورة الكبير، مقابل البحث عن شروط محددة في الحالات الجزئية أو المنفردة، فلنأخذ مثالاً مختلفاً بشكل كامل هو سياسة الولايات المتحدة باستيعاب عشرات الآلاف من المتفوقين والمبدعين من حملة الشهادات العليا سنوياً من حول العالم بإعطائهم الجنسية الأمريكية ونحن نسوق هذا المثال على سبيل الإيضاح فقط، وليس المقارنة مع التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية: من منظور اقتصادي، يكلف إعداد مهندس أو طبيب أو عالم أو غيره كل سنوات الدراسة من الحضانة حتى الحصول على الشهادة، وبعد ذلك ليست هناك طريقة سهلة لمعرفة مستوى كفاءته. ولكن الولايات المتحدة وشركاتها وجامعاتها تسعى لاستقطاب أصحاب التخصصات النادرة والمتفوقين من كافة التخصصات بإعطائهم رواتب مجزية وجنسيات أمريكية. بالنسبة لمن تعرض عليه هذه الفرصة، خاصة إذا كان يعاني في بلده الأم، فهو يراها فرصةً لا تعوض، ولا يسمع شروطاً سياسية أو يراها في بنود العقد، وهو فوق ذلك يحصل على الكثير. ولكن بالنسبة لأمريكا كدولة، أي على مستوى الصورة الكبيرة، فإنها تتمكن بهذه الطريقة من زيادة رأسمالها البشري بكلفة أقل وسرعة وسهولة أكبر مما لو أرادت إنتاج عددٍ مماثلٍ من العلماء والمتفوقين داخلياً على حسابها منذ نعومة أظفارهم. وهذا لا يسهم بزيادة قدرة أمريكا التنافسية في المجال الاقتصادي والعلوم والتكنولوجيا فحسب، بل يبقيها قوة عظمى مقابل دول العالم الأخرى. وهو ما لا يدركه الفرد الذي يحصل على فرصة لا يراها مرتبطة بالضرورة بشروط.

وما سبق مجرد مثال، يهدف لإيضاح مفهوم الصورة الكبيرة في التمويل الأجنبي للمنظمات غير الحكومية، ولكن غالباً ما لا يقتصر الأمر على الصورة الكبيرة في الوطن العربي، بل هناك أكثر من مثال لدفع منظمات التمويل الأجنبي باتجاه التطبيع مع العدو الصهيوني في تونس ومصروالاردن ولبنان ، تحت غطاء التعاون في المجال البيئي او التبادل الثقافي مثلاً أو غيره ولكن مثل هذه الشروط قد توضع وقد لا توضع منذ البداية. ولكن لا بد من الإشارة إلى مسألة بديهية أيضاً وهي أن هوية الممول تكشف بحد ذاتها الكثير من أهدافه ولا تظنن أن الليث يبتسم. وبالتأكيد، مشروع المخابرات الامريكية  أدناه لتوزيع عشرات الملايين من الدولارات على هيئات المجتمع المدني في يوغوسلافيا لم يكن سيتم من خلال موظفين يكتبون على ستراتهم أو على جباههم أنهم من وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بل من خلال صناديق ومؤسسات  تنشئ لهذا الغرض تحت عناوين بريئة ربما يصدقها بالكامل حتى بعض من يقومون عليها ... 

المهم لقد ذهبت يوغوسلافيا وبقيت الوثيقة أدناه وهي مترجمة عن الأصل الأمريكي تحت عنوان: "الترويج للديموقراطية في يوغوسلافيا/ عناصر أساسية للدعم المالي".

ونترك للقارئ أن يلاحظ وجوه التشابه في الخطوط العريضة والتفاصيل بين ما جاء فيها بصدد يوغوسلافيا، وما يتم تنفيذه من قبل منظمات التمويل الأجنبي على أرض الوطن العربي اليوم. فلو استبدلنا يوغوسلافيا والبلقان بتونس ومصر  وكميات المبالغ المنفقة لوجدنا صورة كبيرة يستحيل تجاهل وجوه التشابه فيها...

  ترجمة الوثيقة  

                                                                                        الترويج للديموقراطية في يوغوسلافيا  
عناصر أساسية للدعم المالي

وكالة المخابرات المركزية
مؤسسة البلقان

سري جداً: معلومات أمن قومي/ أي كشف غير مصرح به يعرض صاحبه لعقوبات قانونية

واشنطن دي سي، 16 ديسمبر 1998


(المقدمة): يتوجب على حكومة الولايات المتحدة أن تزيد بحدة من دعمها للديموقراطية في يوغوسلافيا، من المستوى الحالي البالغ 15 مليون دولار إلى 35 مليون دولار في السنة المالية الحالية. وهذا الدعم يجب أن يصبح جزءاً من مبادرة ديبلوماسية واسعة تهدف لتوسيع نطاق الاتصالات التي يقوم بها الغرب، ولتطوير بدائل للنظام المتسلط في بلغراد.

يتوجب أيضاً تشجيع المنظمات غير الحكومية الأمريكية والأوروبية على زيادة حضورها في جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية، وعلى الحكومة الأمريكية أن تشجع مواطني جمهورية يوغوسلافيا الاتحادية على المشاركة المتزايدة في البرامج الإقليمية.

ويجب أن نركز بشكل أساسي هنا على تنمية جيل جديد من القادة الذين يحترمون التعددية السياسية، وتحرير الاقتصاد، وحكم القانون، والتسامح.

وهذا الجهد يجب أن يتضمن موقفاً نشطاً في القضايا العامة، وهو أن شعب يوغوسلافيا يستحق ما هو أفضل من النظام المتسلط الحالي.

والولايات المتحدة يجب أن تقود حلفائها بسياسة قوية، لا عودة عنها، تهدف لقيام دولة صربية ديموقراطية (لاحظ: ليس يوغوسلافيا ديموقراطية، فهو مشروع تفكيك - إ. ع.)، كما حصل في بقية أوروبا الوسطى والشرقية.

أولاً: التركيز على المؤسسات الديموقراطية-


* الإعلام المفتوح، ويخصص له 10 مليون دولار بهدف:

- زيادة حجم الجمهور عن طريق تزويد وسائل الإعلام بالتحسينات اللازمة في البنية التحتية، وبرامج الترفيه النوعية، والبرامج الإخبارية.

- تقديم النصح، والإرشاد التقني والثقافة المهنية.

- تمويل الدفاع القانوني وصناديق الدفاع عن النفس لوسائل الإعلام والصحافيين المضطهدين.

- إذاعة وتعميم أخبار حالات القمع.

* المنظمات غير الحكومية المحلية، يخصص لها 5 مليون دولار بهدف:

- التجاوب مع الاحتياجات المحلية لتدريب المنظمات غير الحكومية.

- تمويل شبكات بلقانية إقليمية للمؤسسات البحثية والمنظمات الإعلامية.

- تشكيل فرق قانونية مستعدة وقادرة أن تدافع عن المنظمات غير الحكومية ووسائل الإعلام التي يتم تحديها في محكمة.

- زرع منظمات غير حكومية متعددة الاثنيات للتركيز على القضايا التي تتجاوز أي إثنية بمفردها، مثل حقوق الإنسان والبيئة والتنمية الاقتصادية.

- الترويج لتكتلات بين المنظمات غير الحكومية للدفاع عن النفس ضد القمع، ومن أجل الاضطلاع بنشاط انتخابي ملائم، ومن أجل التطوير المهني للمحامين والصحافيين والمعلمين والأكاديميين.



* النقابات العمالية يخصص لها مليون دولار بهدف:

- الترويج للعضوية في النقابات، حتى من بين المتقاعدين والعاطلين عن العمل.

- تسهيل الصلات بينها وبين منظمات الاتحاد الأوروبي ومنظمات الطلبة اليوغوسلاف.

- تقديم الإعانات للقادة النقابيين المضطهدين من خلال صناديق الدفاع الذاتي وغيرها من الأعمال.



* قطاع التعليم يخصص له 5 مليون دولار بهدف:

- المساعدة في إنشاء شبكات التعليم البديلة.

- تقديم الإعانات للأساتذة الجامعيين الذين يفصلون أو يرفضون توقيع عقود جديدة.

- تطوير مواد تعليم بديلة تركز على التثقيف بالديموقراطية وحل النزاعات.



* القضاء المستقل يخصص له مليون دولار بهدف:

- تدريب القضاة على الإجراءات القانونية المتوافقة مع المقاييس الدولية.

- تقديم الإعانات للقضاة الذين يفصلون من عملهم أو يتعرضون لضغوط سياسية.

- دعم برنامج رقابة مشترك محلي-دولي للمحاكمات.


* الأحزاب السياسية يخصص لها 10 مليون دولار بهدف:

- توسيع تدريب الأحزاب السياسية على استقطاب قواعد جماهيرية.

- الترويج لبناء جبهة معارضة سياسية موحدة.

- تشجيع تكتلات الأحزاب السياسية مع المنظمات غير الحكومية، من أجل القيام بمهمات موازية غير حزبية مثل تفعيل المشاركة الشبابية وتثقيف الناخبين ومراقبة وسائل الإعلام.

- تطوير كوادر الصف الثاني من القيادة الحزبية من الأقاليم، وعلى مستوى البلديات، ومن القطاعات التي لم تكن تنشط سابقاً، ونشاط الأجيال اللاحقة.

- تقديم الإعانات للحكومات المحلية المسيطرة على معارضة مسؤولة.



* اللجان الانتخابية يخصص لها مليون دولار بهدف:

- تدريب أعضائها على الشفافية في الإجراءات الإدارية.

- تمويل تقنيات انتخابية مضادة للتزوير.

- تقديم الإعانات لإجراءات تسجيل وإحصاء الناخبين.


* المنظمات الشبابية يخصص لها مليوني دولار بهدف:

- الترويج لمنظمات طلابية ديموقراطية.

- تمويل سفر القيادات الطلابية إلى الخارج.

- تقديم الإعانات للبرامج الدراسية والتدريبية في أوروبا والولايات المتحدة.


ثانياً: تأسيس مجموعات دعم دولية -

عقد لقاءات لمجموعة متبرعين (دولية) يمكن أن تلتقي دورياً لبحث الأولويات.

دعوة المنظمات غير الحكومية اليوغسلافية للمشاركة في هذه المجموعة، والتعليق على البرامج الدولية.

تأسيس شبكة مشورة دولية لدعم التطور الديموقراطي في يوغوسلافيا.

(انتهى)

==============================================

... ولا نملك إلا أن نلاحظ هنا أن مشروع الاختراق يتخذ من المنظمات غير الحكومية الممولة أجنبياً، الممتدة عامودياً وأفقياً عبر الشرائح الاجتماعية المختلفة رأس حربة لإضعاف الدولة المركزية. ويحدث هذا بهدف سياسي إقليمي محدد ولكن تحت أغطية إعلامية-دعاوية متعددة لامركزية وديموقراطية وليبرالية وإنسانية. ومشروع الاختراق هذا يقوم على تمويل الأفراد والجماعات بدولارات هي بالضرورة ملوثة سياسياً. فالمنظمات المعانة أجنبياً هنا تتحرك في النهاية ضمن استراتيجيات وخطوط عريضة تحددها قوى الهيمنة الخارجية حتى لو بدا لها أن أحداً لا يفرض الشروط عليها بالنسبة لتفاصيل هذا المشروع المحدد أو ذاك.

وفي ظل عدم التكافؤ الدولي في ميزان القوى، فإن منظمات التمويل الأجنبي تصبح أيضاً أدوات لتمرير العولمة تحت عنوان تحرير الاقتصاد، أو لاحتواء آثارها تحت عناوين تنموية أو اجتماعية. وهكذا تنشأ نخبة ثقافية وشبكات ترتبط بالخارج تمسك بالمجتمع من رأسه حتى أخمص قدميه، لتجره إلى فلك العولمة والهيمنة الخارجية، وفي حالة بلادنا تجره لتكثيف عمليات التطبيع مع العدو الصهيوني .

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...