سقوط الأنظمة العربية من القمة الى القمامة


أظهرت الثورة المصرية أن الشعب العربي مجددا ليس جامدا مفرمل التفكير، كما نظّر اليه مجموعة من الغربيين ذوي التوجهات غير البريئة، حيث الأنظمة القمعية من قبيل نظام مبارك وبن علي، ومن والاها كانت تغذي هذه الافتراضات، إلى أن جرت رياح التاريخ نحو تكريس الحق ولا ندري كيف ستكون مكانة مبارك وبن علي ومن سيسقط بعدهما، في ذاكرة الشعب العربي الذي لن يرضى بأكثر من محاكمتهم ورميهم في مزبلة التاريخ، بعدما بدأت تلفظهم الجغرافيا العربية واحدا واحدا بضربات الكرامة والعدالة الاجتماعية وكسرة الخبز الضائعة.
هؤلاء الحكام الذين يجثمون على صدور الشعوب العربية لم يتوانوا قط عن تسخير آلاتهم القمعية مع المزيد من التفنن في المحاصرة، وليس هناك اليوم شعب عربي حر أكثر من تونس ومصر، وإن كان لكل شعب خصوصيته ولكن الديماغوجية التي تنادي به هذه الأنظمة ومحاكمة كل من ينتقدها بتهمة الإرهاب بالنسبة للإسلاميين، وتهديد أمن الدولة بالنسبة للآخرين، هي تهم مجانية ما دامت ذراع القضاء في مجموعة منها ملوية من طرف الأنظمة السياسية التي أفلست ولم تعد قادرة على تجديد خطابها، رغم حملات التلميع الديماغوجية التي تسوقها ليل نهار عبر أبواقها الإعلامية، إن لم تكن هي نفسها أصبحت تعطل السير التنموي لبلدانها، من خلال السطو على قطاعات بأكملها وعلى خيرات الدولة.
لسنا هنا بصدد تعداد انتقادات لهذه الأنساق السلطوية، بقدر ما نحن نرصد تصورها للحكم، وهو تصور خاطئ لأنه يعتمد الإكراه بدل السلطة الناعمة بالمفهوم الفوكوي، حيث الدولة في خدمة الشعب وليس الشعب في خدمة السلطة، كما يظهر بالعيان في أنظمة الدول العربية التي تبلور تصورا يحافظ على مصالحها وامتيازاتها.
الوجه الآخر لبدء تهاوي الأنظمة العربية هو اقتسام أبناء الشعب العربي لنفس المعاناة خبزيا وحقوقيا، لاسيما على مستوى الطبقة المتوسطة، التي لم تعد قادرة على مجاراة الارتفاع الصاروخي للأسعار، والتحقت هي الأخرى بالطبقة الكادحة المتسعة، فكانت الثورة التونسية وبعدها المصرية ثورة خبز وكرامة، وانتفاضة ضد الجوع والذل معا، على حد تعبير المفكر العربي د.عزمي بشارة.
وليس تسويق صورة التنمية الاقتصادية المغلوطة هو ما يمكن من تحقيق السلم الاجتماعي، إذا لم تصاحب هذه التنمية عدالة اجتماعية، مع الحفاظ على الكرامة والشعور بالأمان وبالمواطنة الحقة، بدل هذه الشعارات الرنانة التي تطلقها حكومات عربية لا تملك غير السمع والطاعة ولا تطبق منها سوى منظومة تخويف الشعوب.
لن يستمر النظام الرسمي العربي طويلا وسينتهي، إن آجلا أم عاجلا، إذا لم يتصالح مع مواطنيه على مستوى الكرامة، لأن مفهوم الدولة الراديكالي التسلطي مفهوم متجاوز في وقتنا هذا، إذا لم تكن في نية الدولة الشعور بخدمة الشعب وتسيير شؤونه وإشعاره بالحق في ثروة البلد وليس السهر على أمن الأنظمة ومطاردة كل من ينتقدها لإطالة عمرها.
لقد أثبتت الحالة العربية في تونس ومصر اليوم أن الضغط يولد الانفجار، لاسيما حينما يتعلق الأمر بالحريات، ليس كلغة إنشائية يتم ترويجها من قبل أبواق الدعاية الرسمية التي تطبل وتزمر ليل نهار لأنظمة متسلطة، ولكن أن يلمسها المواطن كسلوك في الشارع، في الإدارة، في كل مكان، أن لا يشعر بالخوف، الخوف من المجهول مثل الظل يلازمه، وهي حالة المواطن العربي المرعوب من أجهزة الشرطة والخوف من مصير لا يعرفه.
والرعب في الوطن العربي متبادل، حيث النظام العربي الرسمي بدوره أصبح مرعوبا هذه الأيام من تصاعد الرفض ضده، ويجتهد كل يوم من أجل تطوير أساليب تطويق وتزييف الوعي الجمعي لدى الجماهير.
حتى الغرب الذي كان يسكت على هذه الأنظمة لم يكن يفعل ذلك حبا فيها ولكن لأنه كان يعي تماما مدى استفادته منها، وهي تراعي مصالحه، مع العلم أنه قادر على التخلي عنها في أي لحظة ورميها في خردة التاريخ إذا رأى بوادر ثورة، كما حدث لابن علي صديق فرنسا الدائم، الذي رفض ساركوزي حتى استقباله، فكان أن لفظه التاريخ بعدما لفظته الجغرافيا في قمامة الطغاة.
لم تنجح لحد الساعة الخطط الاستنزافية التي شنتها الأنظمة العربية على شعوبها منذ خروج المستعمر الأجنبي وظهور المستعمر المحلي، في إطار استنزاف الثروات وقمع الحريات، فبقي المواطن العربي يصارع قوت يومه ولم ينس أبدا أن يطالب بحريته المسلوبة ولو بشكل موسمي.
اليوم نستطيع أن نقول ان النضج والوعي العربيين قد بدءا في التشكل مع تحقق وعي حقيقي لدى الشباب وارتفاع سقفهم المطلبي ومثقفين ملتزمين شريطة أن يبتعد عنه أشباه المثقفين الذين يقرعون أنخاب السكر مع أزلام الأنظمة ليلا، وفي الصباح يتشدقون بكلمات مفضوحة تحاول أن تدجن الشعوب، وكدلالة على التنصل من مبادئهم ولبس عباءة تروج الخطاب الرسمي لأنظمة دخلت منذ مدة مرحلة الموت الإكلينيكي.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...