السعوديّة ليست بيت أبي سفيان يابن علي

أيّ صنف من البشر هؤلاء الذين يرتكبون جرائمهم بكلّ برودة دم؟ وبذرائع واهية حتى لو كانت حفظ الأمن أو الوطن؟ وكيف لإنسان مثلنا من لحم ودم،أن يلحق بالتونسيّين الذين توهّموا في نوفمبر 1987 أنّه خلّصهم من خرف بورقيبة،ومن 'خطر الإسلاميّين الداهم' كلّ هذا الدمار؟.
أقول هذا ونحن لم نلتقط بعد أنفاسنا من أثر ما انهال على رؤوسنا من صور سيدي بوزيد والرقاب وتالة والقصرين والحوض المنجمي ...علامة فقر زين العابدين بن علي الأخلاقي ..الجنرال الهارب الذي نصّب نفسه ناطقا لا باسم الوطن فحسب،وإنّما باسم الدين أيضا،منفّـذا لما يعتقد أنّه من أحكامه العادلة.. علامة 'الإيمان البخيل' الذي يعطّل الكرم الإلهي:الحقّ في الحياة،بتعلّة 'قصاص' لا سند له،من شباب'يائس'،استطاع في لحظة تونسيّة فريدة،أن يحرّرنا جميعا من الخوف، عسى أن نرى التاريخ وهو يتقدّم من وضع قادم.. ابتداءً من المستقبل، وليس من الماضي أو الحاضر الذي يحمل أبدا زمنه ويطويه..
الجنرال علامة الجريمة الحدث الذي عقد قرانه على الثروة:
ثمّ حديث نبوي يقول إنّ من أخذ شبرا من الأرض غصبا أو سرقة جاء يوم القيامة يحمله أو يطوّقه.أمّا اليوم وقد سرق الجنرال بلادا بأكملها:أرضها وبحرها وناسها وحيوانها،فلا أظنّ مشهد جمهوريّة مسروقة تـُعرض في'موقف الحشر' ممّا خطر ببال صاحب'رسالة الغفران' أو صاحب الكوميديا الإلهيّة.
الجنرال وهو يجنّد قنّاصته للنهب والحرق،في مشهد احتفاليّ غريب عن ثقافة التونسي: رقص جماجم وهياكل عظميّة لا رقص أحياء. كان هدفه في لحظة فراره الجبان أن يجعل منّا بلدا ممزّق الأوصال مصدوع الوحدة، وأن نتفرّغ لشتّى ضروب الفوضى.
***
ما بين تونس بن علي وتونس 14 جانفي(يناير) يجسر التونسيّون الهوّة التاريخيّة التي كان الجنرال وبطانته من كتـَبة وأساتذة قانون وأحزاب ديكور،يحفرونها بمعاول'الديمقراطيّة' وفؤوس'الحرية'.. أن تمكر اللغة بمعنى أن تموّه وتخاتل من أجل ترويض هذا الحيوان أو ذاك أو من أجل تدجين هذه القوّة الغاشمة أو تلك، على نحو ما كان يفعل أسلافنا الغابرون وقد عزّت بهم التقنية،فلاذوا باللغة وبالتصوير على جدران الكهوف،ومازلنا نترسّم أثر هذه الذهنيّة في كثير من استعمالاتنا اللغويّة اليوميّة؛حتى أضحى هذا الأثر من صميم بنية اللغة الاستعاريّة.. أن تمكر اللغة بمثل هذا المعنى فذاك مكْر محمود... أمّا أن تمكر اللغة كما كان يفعل الجنرال في خطبه التي كان يكتبها له بعض زملائنا في الجامعة من الذين ألحقهم ب'ديوان الإنشاء'، وأنّى منه رسائل عبد الحميد الكاتب الديوانيّة.. أن تمكر اللغة بمعنى أن تغالط وتزيّف فتبطل حقا وتحقّ باطلا ،فذاك لا علاقة له باعتباطيّة العلامة اللغويّة، بل باعتباطيّة المعنى، وما تـُحقن به اللغة من خارج بنيتها بتزويق أو بإتقان بالغ،حتى لكأنّه من بداهات اللغة نفسها: فأن يلوذ الجنرال بالصمت،فليس لأنّ السعوديّين حرموه نعمة الكلام،أو لأنّه لم يجد ما يواجه به التونسيّين، وإنّما لأنّه تكلّم إلينا من خلال الصورة، أبلغ ما يكون الكلام... وقد تمكر الصورة،ولكن على الذاكرة أن تمكر أيضا، ذلك أنّ لصور الشباب المقنوص بالرصاص الحيّ،مرجع وذاكرة ـ ولا أفهم لماذا يُنعتُ ب'الحيّ' وهو الذي يصنع الموت؛ولكن هل الحياة سوىبعض من الموت وهل الموت سوى بعض من الحياة؟ وبعد هذا وذاك فهل كنّا ننتظر من الجنرال أن يستعمل الرصاص الأبيض لتفريق المتظاهرين المحتجّين؟الرصاص الأبيض للسينما وهذه ليست سينما. السينما للفرجة وهذه الأحداث لم تكن للفرجة والكتابة.. أمّا الذاكرة فهي ذاكرة السجون: 
'لامبيز' في عهد الفرنسيين و'برج الرومي' بعد الاستقلال حيث كان بورقيبة قبل بن علي يستكمل استئصال اليوسفيّين،ثمّ الشيوعيّين فالإسلاميّين؛والتهمة هي ذات التهمة! والسجان هو نفس السجان، وإن تبدلت الأسماء! ما الفرق بين 'بيتري' و'التيجاني'؟ كان السجانون في 'لامبيز' أو جهنّم البيضاء كما كان السجناء يسمّونه،لكثرة الثلوج المتهاطلة بجهته، من حثالة الأوروبيين.. خليطا من الفرنسيين والألمان والبولنديين والروس.. وفي 'البرج' من حثالة البدو وبيوت الصفيح في المدن(ميليشيا الحزب الحاكم).. في الأوّل وفي الثاني.. لا فرق.. كانوا يدفعون بالوطنيين إلى كهوف مظلمة ودهاليز وسراديب محفورة في الأرض، تتدلّى من سقوفها رواسب كلسيّة، وضوء ضئيل متخافت.. 'منسيّات' أرضها مخلوطة بالماء والجصّ والبوتاس، وجدران تنضح ماء ورطوبة.. على أنّ من يقرأ ليس كمن يرى.

***
لسنا سذّجا حتى نبرّئ التاريخ البشري من المكر،فهو تاريخ بشر وليس تاريخ ملائكة، ولكنّنا لسنا أغفالا حتى
نقنع بتاريخ تنصب فيه اللغة فخاخها،فأنْ يقول لنا الأمير سعود الفيصل إنّ استضافة بن علي هي طبقا ل'عرف عربي'وأنّ 'المستجير يُجار' فقول حق لا مراء فيه.. ولكنّنا نعرف أنّ الثعابين لا تحفر جحورا
بل تحتلّ الجحر الذي يروق لها أو يعترضها ،وقد حفرته من قبلُ حيوانات أخرى غيرها. وقد يحدث ألاّ يجد الثّعبان جحرا يأوي إليه، فيهيم على وجهه زاحفا أو طائرا (هذه الأخيرة جديدة على علماء الحيوان)، كما طار زين العابدين بن علي حتّى حطّ الرّحال في شبه جزيرة العرب. لم يأت غازيا هذه المرّة، بل جاء مستجيرا فأجاروه، ولو استجار بربّه ما أجاره، ولو استجار بالشّيطان ما أجاره. جاءهم بخطاياه وذنوبه وسيّئاته وجرائمه،ولم يغسل يديه بعد من دم ضحاياه، حتّى لو اغتسل بمياه البحر الأحمر كلّها، حتّى لو اغتسل بماء زمزم كلّه، حتّى لو سلخ جلده عن لحمه، فلن يتطهّر. صورته الآن صورة 'نموذجيّة'.. صورة مُطارد ملامحه مزيج من نماذج الهيئات المرسومة على ضوء الصفات التي أدلى بها شهود تونسيّون .
نام الثّعبان في حِجر مجيره، فهل يستطيع المجير أن ينام؟

بقلم
منصف الوهايبي

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...