يولى عليكم أمراء تُبغضونهم ويُبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم

 مخطئٌ الحاكمُ ـ إلا من رحم ربكَ ـ الذي يعتقد مقتنعاً بأن المواطن عبءٌ عليه. وأن المواطن هو المصدر التهديدي الأكبر لسلطاته إنْ لم يكن الأوحد وأن مصدر الأمن الحقيقي لا يتأتى عبر المواطن كما يُقرأُ في علم السياسة، وكما يشــــير الخــــطاب السياسي للحاكم يزكم به الأنوف ويصدع به الرؤوس بمناسبة وبغير مناسبة وتروجه وسائل إعلامه وتطبل وتزمر له (والشيفه شيفه والمعاني إضعيفه) كما يقول المثل الخليجي.
وإنما الاستقواء بالخارج سياسيا واقتصاديا وعسكريا وعَمالياًّ في صور وصيغ كثيرة ومختلفة ومتنوعة هو وهو فقط ما يضمن أمنَ (ليس الشعب وليست البلاد) بل يضمن ديمومة حكمه هو واستمرارية غلوائه وطغيانه وجثمه على صدور أفراد الشعب الذين يُسموْن جزافاً (مواطنين). ومخطئ الحاكم الذي يُفرِّق بين مواطنيه في التعامل والمعاملة ويكون إنتقائياً، ولا ينظر إلى نفسه على أنه حاكم وأب للشعب كله وليس لفئة بعينها. يقرب فئة ويدنيها من مجلسه وينفق عليها وهي ليست في حاجة فتزداد ثراء فوق ثرائها ويتعاطى مع ملفاتها ويمسك عن فئات أخرى وهي في حاجة لعطائه وإصغائه لها أو على الأقل تفريغ وقت للاستماع لهمومها ومشاكلها، فتزداد فقرا إلى فقرها. أتذكر حديثا لرسول الله محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه: 'يُولَّى عليكم أُمراءٌ تحبونهم ويحبونكم وتصلون عليهم ويصلون عليكم (أي تدعون لهم ويدعون لكم) ويُولَّى عليكم أُمراءُ تُبغضونهم ويُبغضونكم وتلعنونهم ويلعنونكم'. إنها ذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمعَ وهو شهيد. وهو جرس إنذار نقرعه بقوة للحكام ولا تنسوا (شين الهاربين بن وطِيْ).... ولا نحب أن يأتي يوم آخر ونضطرُّ إلى طرح السؤال الدامي الذي طرحه همُنجواي ذات يومٍ: 'لمن تُقرعُ الأجراس؟' To Whom Bells Toll؟ ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله، وإنا لله وإنا إليه راجعون. 
ومخطئٌ الحاكم الذي يشعر أن طلبات المواطن تضع عليه ضغوطا اقتصادية ومالية خارجية وداخلية، وتشغله عن إدارة البلاد وشؤون الحكم وإذا كان الحاكم لا ينشغل بالمواطن وهمومه فأي حكم يدعي أنه يقود وأي إدارة للبلاد يتشدق بملءِ فيهِ عنها! وما يهمه هو أن يعيش أطفاله وأحفاده منعَّمين في الدِّمقْسِ وفي الحرير ويأكلون ويشربون ما لا عينُ مواطنٍ رأت ولا أُذُنُ مواطنٍ سمعت ولا خطر على قلب مواطن. فرجلاهُ وأرجُلُ أولاده وأحفاده ومقربيه وبطانته وزبانيته في الماء وليس مهما أن تكون أرجل المواطنين في النار ومخطئ الحاكم الذي يصدقُ تقارير مستشاريه ووزرائه ولا يكلف نفسه مؤونةَ التأكد ميدانيا من فحوى تلك التقارير. حدثني رجل من عِلْيِةِ القوم في أسرة حاكمة خليجية ممن أنعم الله عليه بحب المواطنين المسحوقين أنَّ وزير المالية في بلده أراد أن يزدادَ حظوة عند الحاكم عن طريق التقتير على الموظفين المواطنين وعلى ظهورهم الضعيفة. فماذا فعل؟ رفع مذكرة للحاكم وقال له إن الموظفين المواطنين يبيعون إجازاتهم السنوية للدولة وفي مقابل ذلك يتقاضون مبلغا من المال. فاقترح الوزير على رئيس الدولة أن يتم انقاص مدة الإجازة السنوية للموظف المواطن بمقدار الثُّلث وبذلك يتم التوفير لصالح خزينة الدولة. فوافق رئيس الدولة (وهو نصفُ خاطر كما يقول المثل الخليجي) من غير أن يتأكد من المواطنين الموظفين (لنتذكر ما قاله شين الهاربين عن مغالطة وزرائه ومستشاريه له) عبر القنوات المتعددة والمتاحة، مما أوجد سخطا لدى الموظفين المواطنين غير أنهم أُضطُّروا لبلع الإهانة/المظلمة، فهم قطعاً لا يستطيعون أن يمارسوا دور (رامبو). 
والواقع أن المواطنين الموظفين الخليجيين من تلك الدولة عندما كانوا يفعلون ذلك لأنهم كانوا مضطرين فرواتبهم لا تتناسب مع نسب التضخم الاقتصادي في الدولة وغلاء أسعار المواد الغذائية وأسعار المدارس الخاصة. فالمواطن في كثير من دول الخليج ليس أمامه سوى خيار واحد لتعليم أبنائه وهي المدارس الحكومية، وهي ذات مستويات متدنية تعليميا وتربويا مقارنة بالخاصة، والمواطن الخليجي عليه أن يدفع من النزر اليسير المتبقي من راتبه إنْ أراد أن يُدخل أولاده في المدارس الخاصة. بينما الأجانب في هذه الدول (وبالمناسبة بعض دول الخليج تنظر إليهم على أنهم صمام الأمن لبقاء الحاكم في كرسي الحكم على خلاف المواطن) تمنحهم الدولة خيارات متعددة ومتنوعة لتعليم أبنائهم (والعِزْ للرُزْ والبُرغلْ شنقَ حاله) فثمة خيار التعليم الحكومي وهم لا يرغبون فيه بطبيعة الحال لأنه مجاني ولأنه ضعيف ولا يليق إلا بأبناء الخليجيين أما هم ذوو الدم الأزرق فمستواهم أكبر من ذلك! وثمة تعليم أهلي والأفضل قطعاً التعليم الخاص وهو كذلك مراتب ودرجات وهم يختارون الأغلى وهو الأمريكي والبريطاني والفرنسي طالما أن الدولة أو القطاع الخاص فيها تدفع المصاريف. ناهيك عن أن المواطن الخليجي في معظم دول الخليج ليس له تأمين صحي وليس أمامه سوى أن يعالج في مستشفى حكومي بعينه في حين الأجانب يتمتعون بالتأمين الصحي وأمامهم عشرات الخيارات في المستشفيات الخاصة والتي على مستوى فنادق الفايف ستارز أو الخمس نجوم بل وأرقى. وناهيك أيضاً عن أن الخليجي وأسرته لا يُمنحون تذاكر سنوية ولا حتى 'إيكونومي' أي سياحية بينما الأجانب وأُسرهم تُصرف لهم تذاكر فيرست كلاس درجة أولى في كل عام. ونتساءل بحرقة: أين خصوصية المواطن في وطنه؟ أم أن لسان حال المواطن الخليجي بات يقول: 'نحنُ إثنانِ بلا وطن يا وطني'.
لا نحب لما بقي من الحكام ممن لمَّا يهربوا بعدُ، بعدَ هروب الحاكم (الشين قدوة الهاربين) من تونس أن يقولوا لشعوبهم ما قاله هو للشعب التونسي ولكنْ في الوقت الضائع وبعد أنْ فاتَ الفوْتُ ولم يعُد ينفع الصوتُ: إن المستشارين قد غالطوه وسيحاسبهم. ثلاثة وعشرون عاما وهم يغالطونه فلم يتنبهْ إلا بعد أن بلغت القلوب الحناجر وظنوا أنهم مواقعوها ولم يجدوا عنها مصرفا ومن حوله الشعب التونسي إخالُهُ يقول بلسان الحال، ما قاله ذلك الزوج العربي لمطلَّقته التي جربت غيره وتذكرت أيام العز عند طليقها فأرسلت من يطلب إليه إرجاعها فرد عليها ' الصيفُ ضيعتِ اللبن'. هذا هو قانون الفراعنة. ألم يقلْ (فرعونُ موسى) والبحر يطبق عليه من كل حدب وصوب: 'آمنتُ بالذي آمنت به بنو إسرائيل' أي أتباع موسى عليه السلام؟
ذكر لي صديق من أسرة حاكمة في الخليج ذو حس وطني عالٍ أن أحد مستشاري رئيس الدولة التي هو منها قال لرئيسه: 'جوِّعْ كلبَك يتبعك'.
وهي بالمناسبة عبارة كثيرة الانتشار بين الحكام القمعيين. خطأٌ وخطلٌ وأمر معيب أن يُشبَّهَ الإنسان بالكلب أو أن يُنظر إلى المواطن على أنه كلب. عواقب كذا تفكير منحط جدُّ وخيمة والحاكم الذي يسلُّم أُذنيْهِ لكذا مستشارين مرتزقة (وما أكثرهم بل هم أكثر من الهم على القلب) في الدرك الأسفل من الَّلاأخلاق هو حاكم يدق إسفينا مبكرا في نعش حكمه ويحفر قبره بكلتا يديه. حتى مكيافيلي في القرن السابع عشر والذي تنهج دول الغرب خاصة نهجه وتطبِّقُ نظرياته ومنها 'الغاية تبرر الوسيلةّ' وهو مع أنه مبدأٌ لا أخلاقي سافل لم يهبط إلى مستوى كثير من المستشارين والوزراء العرب الذين ينظرون إلى المواطن على أنه كلب، ويغسلون مخ الحاكم على أساسه وعلى أن المواطن بطن يبلع الطعام والذي يذهب تسعة وتسعون في المائة منه في دورات المياه. فهو أي المواطن كما يظنون أو يفترضون لا تفكير ولا عقل له ولا يستنتج ولا يحلل. وليتذكر الجميع أن ما ظنهم (شين الهاربين) كلابا جوعهم لثلاثة وعشرين عاما ثاروا عليه ولم يكتفوا بالنبح عليه وعلى كل رموز نظامه البائد بل أشبعوهم جميعا عضا ونهشا برغم جوعهم وصدق محمود درويش: 'حذارِ حذارِ من جوعي ومن غضبي إذا جعتُ سآكل لحم مغتصبي' وقد فعلها التونسيون وسيفعلها العرب جميعا إذا بقيَ مثل هؤلاء المستشارين والوزراء الذين يغالطون الحكام.

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...