لم تستطع روحي مغادرة تونس


ما كان سيحدث لو غادرت هذه التونس.
ما كان سيحدث لو قررت الحصول على هوية أخرى أو الانتماء إلى وطن غير هذا الوطن؟
لكنت شهدت ولادة إنسان آخر..
لكانت امتلكتني أشواق العودة والحنين إلى أرضٍ باتت لسواي.. إلى وطن لن ينبت أبنائي.. إلى تونس خسرتها يوم اتخذت قرار المغادرة، يوم أبعدت عيني عن رؤية امتداد زرقة بحارها وارتفاع جبالها وخضرة ارضها
لكنتُ همت على وجهي بحثاً عن هوية جديدة ألبسها.. عن انتماء آخر.. عن وجه لا يشبه وجه تونسي.. عن إنسان جديد سيولد.. عن دائرة نفوس غريبة تُصدر لي الهوية.. عن مبادئ مختلفة يرتشفها أبنائي..
لم تراودني أحلام الرحيل لأنني مللت الرحيل أفقد التوازن حين أقاوم جاذبية الخريطة الخضراء خوفاً من أن أعتمر مكان لا يشبه ذاكرتي.. لأني أكره جمال كل المدن التي تنافس جمال مدني.. لأني أعشق طلوع الفجر وغروب الشمس في وطني..

لم أغادر .. لأني أرفض الارتباط بأرض رائحة ترابها لم تتخمّر تحت سماء وضياء وطني.. لأني أعجز عن تبني شعب لا يملك تقاليدي ولا يتمتع بثقافتي ولا تهمه مبادئي..
لأني أخشى مجيء الفصول دون أن أشهد ولادتها..
لأني أكره أن يبللني مطر لم تحبل به غيوم سمائها.. لأني أخاف أن أعتاد المياه المعلبة واستبدالها بينابيع قريتي.. لأني سأشتاق إلى كل ما أنبتته أرض تونس وستنبته لأبنائي.. لم أغادر لئلا يخنقني ثقل الهواء الفارغ من عطر أشجار جبالنا..

لم أرحل طالما تراودني رغبة الصلاة بلغتي.. لغة الوطن.. لغة تصبغ صوري ومفرداتي.. تستحوذني فتمنعني من التواصل بلغة سواها.. لغة حفرت ذاكرتي ورسمت تاريخي.. لم أرحل ما دمت أشتهي لوطني حكاماً لم يولدوا إذا غادره جميع أبنائه..

لم تساورني هواجس الارتحال لأن الوطن يلبسني كلما مشيت في شوارع لا تؤدي إلى منزلي.. يلبسني إذا ما أقمت في منزلٍ لا تقودني أروقته إلى غرفتي ومؤنة أمي ومدفأتي.. وإذا لم يغطي "نفناف الثلج" درج منزلي..
لن أغيب عن ملامح وطني ما دمت أفيق من شوقي إلى غناء الضفادع في أول الصيف.. وما دمت أغار من ابتسامات تجوب الأرض متحدية دموع أهلي.. ما دامت التساؤلات تتآكلني حول الشوارع والفصول، حول الورود والأشجار، حول عاداتنا وتقاليدنا، حول عجوز ينتظرني "بزهر الياسمين" على مفرق طريق خلال نزهتي المسائية..

أخاف الرحيل أجل.. اخاف الرحيل لئلا تشرق الشمس دون أن أشهد طلوعها من على شرفة منزلي.. أخاف رحيل من أحبهم وأنا لست هاهنا.. أخاف أن تكبر اشجار وطني وأنا بعيدة.. أخاف أن تهرم المنازل ولا أعود أعرفها.. أخاف أن أعتاد على غربتي فتفقدني محبتي لهذا الوطن..

كيف أرحل ما دامت بدائع الدنيا تسقط أمام تواضع معالم الوطن.. كيف أترك أوراق التفاح والزيتون والعنب تتهاوى دون أن أراقب تراقصها على طرقات غير معبدة.. كيف أرحل وأترك فنجان قهوتي وحيداً..
عاجزة أنا عن الرحيل.. أخاف أن أهجر بلادي.. لمن سأترك هذه التونس من بعدي.. إذا رحلت أنا من سيبقى.. من سيقرع باب مسجدنا من سيصغي إلى المآذن.. لمن ستغني العصافيير.. من سيراقب هطول المطر من خلف النافذة.. من سيبني  الوطن منازل قرميدية.. من سينبت حقول القمح ويعصر الزيتون.. من سيزيل قطرات الندى الصباحية عن غصون الاشجار

لا يغادرنا الوطن.. بل نحن نتخلى عن عبئ انتمائه..
أن نغادر الوطن.. يعني أن نغادر ذاتنا. أن ندفن صباحاتنا وأمسياتنا المصبوغة بنسائمه..

يختارنا الوطن، لا بل ينتمي إلينا بدل أن ننتمي إليه.. . يناضل بوجه نزواتنا وبحثنا عن انتماءات أخرى.. يختارنا شهوداً لتاريخه وبناة لحضارته.. يمنحنا هويته، وما أعظم هذه الهوية، فإما أن ننتمي فنكون منه أو لا نكون..

أن ننتمي إلى وطن انتشلنا من زحام الأوطان وأرادنا لتاريخه علامة.. أن تتنفس دماؤنا من هوائه وتنجبل ذاكرتنا بترابه وتصبغ الشمس أجسدنا الساجدة تحت عظمة مجده..
مجد هذه التونس منح لي فهل أرحل.. كيف أغادر وأتخلى عن جزئي من الوطن..

لا يغادرنا الوطن.. وإنما نغادره نحن.. نتخلى عمّن أنجب ذاكرتنا.. عمن نحت ملامحنا.. عمن شكّل صورنا وشخصنا وماضينا.. عمن خلق الإنسان بداخلنا.. نغادر الوطن كما تقلع الأشجار من جذورها.. نغادر فنتخلى عن هوية أبنائنا ولا يبقى من يشبهنا.. نغادر فندفن ذواتنا وتاريخنا.
لم تستطع روحي المغادرة  لأنها عجزت عن الإنتماء إلاّ إلى من أنجبتها.. تونس

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...