لم تسقط بعد دولة الفساد في تونس


ملفات البوليس السياسي، الدعم الغربي، العسكر كلها أسلحة و أدوات تصلح لإزاحة هذا الطرف أو ذاك و إخلاء الساحة من الطفيليين. فلا عبور الى الدولة الا عبر القطع النهائي مع النهضة و فك الارتباط معها بشكل مطلق. استقرار البلاد بات مرتبطا، دون ادني شك، بمدى قبول جميع الأطراف بقواعد و أهداف اللعبة التي تطبخ تحت قبة المجلس المستشارين، ذاك المجلس الذي كان يطرح أكثر من سؤال حول معنى وجوده، و لكن هل تؤدي قواعد اللعبة كما تـُرسم إلى تحقيق أهدافها كما يـُأمل. مفاجئات كبيرة في الانتظار لو تمّ فعلا السيطرة على المجلس التأسيسي من قبل التيار القومي و الإسلامي. هذه الدولة لن تستسلم.  إن التحدي الأساسي هو أن الدولة لا تدرك بالضبط الحجم السياسي لهذه القوى بعدما غالطت نفسها لعقود عندما كانت تريد أن تغالط الغرب،
و صورت هذا التيار على انه حفنة من الإرهابيين و المتطرفين. و هي اليوم تعاني من غياب البصيرة و التبصر و تراهن على انتخابات المجلس الوطني التأسيسي لاستعادة القدرة على قراءة المستقبل و إيجاد مساحة لممارسة الفعل. و التيار الثاني، هو ذلك التيار الذي يبحث عن خلق قطيعة حقيقية مع دولة بورقيبة و دولة الاستقلال و ليس فقط سلطة بن علي، وهو ليس مستعدا أن يقبل ببعض الترميمات الشكلية على واجهة المشهد السياسي الوليد. من هنا ليس صدفة أن ترى ذلك الحذر الشديد الذي تتعامل به الدولة و أجهزتها مع قادة حركة النهضة و المؤتمر من اجل الجمهورية على وجه الخصوص بوصفهما التعبير الأقرب إلى النفس الثوري الذي يبحث على قلب الأمور رأسا على عقب. تباين بين تـيّـارين يحكم المشهد السياسي اليوم، تيار لا يرتضى أن تذهب التحولات القادمة إلى ابعد من كونها مجرد تناوب للأدوار داخل الدولة، يحلّ فيه تيار وسطي حداثي و معتدل محلّ يسار متآكل و محترق، و من هنا تأتي أهمية بعض الأحزاب مثل التجديد و التكتل و بصفة اخص الحزب الديمقراطي التقدمي المرشح الأبرز لهذا الدور و الذي بات مطلوبا منه أكثر من غيره أن يتخلص من كل علاقات الودّ التي كانت تربطه مع النهضة. ليست الدولة مجرد حكومة تسقط أو تستقيل فتتشكل من جديد أو مجموعة من الوزراء يعينون أو يقالون، إنها عقلية، و ذهنية مترابطة و متكاملة، إنها البوليس و العسكر و الموظفين ذوي الرتب السامية، إنها رجال الأعمال و أصحاب البنوك و الفنادق و المركبات الصناعية و التجارية الكبرى، إنها شبكة العلاقات الدولية و التجارية التي انخرطت فيها تونس منذ الاستقلال و يصعب التخلص من تأثيرها على القرار السياسي الداخلي مهما كان الفاعلين السياسيين، إنها النخبة الممسكة بدواليب المعاهد و الكليات و الجامعات، إنها الصحافة المأجورة و الإعلام البنفسجي، إنها أجيال من الشباب المتورطة في التغريب حد النخاع، وبورجوازية متعفنة بلا أخلاق، و نرجسية ذاتية يصعب التخلـّص منها. ليس الصدام أو التصادم ما تبحث عنه الدولة، هذا استحقاق فرضه تاريخ 14 جانفي و ما تلاه من تداعيات و لا نقاش فيه، و هي مستعدة لكل شيء من اجل إنقاذ وجودها و جوهرها البورقيبي. إنها مستعدة لكل المساومات و التنازلات و التحالفات و الترميمات و كل ما تتطلبه المرحلة القادمة من إصلاحات في سبيل ضمان العيش المشترك. و لكن تحالف "الدساترة" مع الخط الحداثي ذي الأفق اليساري لن يتزحزح و سيبقى العمود الفقري للدولة في الوقت الراهن. لقد أوكلت له مهمة ترتيب المسار الانتقالي و الأمل معقود عليه حتى يساهم في قيادة المرحلة القادمة.  ان الدولة التي قامت على تحالف "الدساترة" و اليسار وورثت تقاليد راسخة في إدارة شؤون الحكم تعود إلى العهد الحسيني على الأقل، و انخرطت بقوة في مختلف العهود و الاتفاقيات الدولية، لن تستسلم أبدا "للغوغاء" و "السوقة" و "المنحرفين" و"المشبوهين" و "المغامرين" و "أصحاب الهرج و المرج" لمجرد صفعة أخذتها على حين غرة، إنها تختبرهم، تتأمل فيهم، تحدق إليهم ماذا هم فاعلون و تساءل نفسها. هل أذنبت في حقهم عندما شردتهم، شتت عائلاتهم، دفعت بهم الى المنافي،وضعتهم في أقبية السجون، عبثت بهم ؟. هل تضطر للكشف عن وجهها القبيح و البشع مرة أخرى؟ عيونها في كل مكان ترصد تحركاتهم، تترصد أخطائهم و في الوقت المناسب سيأتي الجواب المناسب. كم تتمنى أن يفهم الجميع قواعد اللعبة و ألا يجازف منهم احد. رفض الاعتراف بالمجلس الوطني لحماية الثورة، اعتماد التناصف، وضع القانون الانتخابي، تقسيم الدوائر، رفض إقصاء التجميعيين، طرح العهد الجمهوري، التلكؤ في معالجة موضوع الإعلام، رفض المراقبين الدوليين، تأجيل الانتخابات، ليست إلا مجرد عناوين لضبط إيقاع قواعد اللعبة القادمة و محاولة ترتيب الأمور وفقا لمزاج الدولة. و حتى التداين من الغرب ليس المقصود منه مواجهة الوضع الاقتصادي المتردي، بقدر ما هو محاولة لتوريط الدولة في التزامات دولية تضمن لها الاستمرار في الفلك الغربي. هل نحتاج بعدئذ أن نفهم غياب أو تغييب الإسلاميين و القوميين و حتى اليسار الراديكالي عن كل مواقع القرار السياسي في هذه المرحلة الانتقالية الحسّاسة و الحذر الذي تتوخاه أجهزة الدولة في التعامل معهم؟ لم تنس الدولة معاركها السابقة. إذ أن الدولة التي قامت على إقصاء الزيتونيين و تصفية اليوسفيين ما زالت هنا و الصلح ليس بعد.  ما يبدو مجرد اختيارات متسرّعة أو مواقف ارتجالية، إنما تعبر في أعماقها عن حركة التاريخ و عقل الدولة. لا شيء متروكا للصدفة. كل واحد يقوم بالدور الذي أوكل له أن يقوم به. التسرّع، التعجّل، الخوف، المغامرة، البهتان، الانتهازية، الطموح، كلها مقدمات في خدمة الهدف الاسمي للدولة. في هذا المستوى قراءة هيقل للتاريخ و الدولة لا تعرف الاهتزاز. تسليم مهمة إدارة المرحلة الانتقالية إلى عياض بن عاشور أو انضمام حزبي التقدمي و التجديد إلى حكومة الغنوشي و من ثم الانطلاق في حملة انتخابية مبكرة تتوفر فيها شتى الإمكانيات، ينطوي على أكثر من معنى بوصفهما ذاك البديل الذي ربما تبحث عنه الدولة و يمكن أن تطمئن إليه. لقدت رُسمت اللعبة منذ البداية عندما اختارت الدولة حلفائها الجدد و اختارت من يرسم الطريق إلى المستقبل. على هذا الصعيد يبدو أن حزب التقدمي الديمقراطي التقط الرسالة بذكاء و باشر مهمته منذ اللحظة الأولى.  حينئذ ليس صدفة أن يتم استدعاء الباجي القائد السبسي لرئاسة الحكومة الانتقالية، إنها العودة إلى أرشيف الدولة البورقيبية من اجل الربط بين حقبتين و رسم الخطوط الكبرى للمستقبل.هنا حتى اسمه الثلاثي ليس صدفة. وإذا كان هذا الاسم ملبّد بالغموض و الالتباس ابتداء و انتهاء( الباجي–السبسي) بقدر الغموض و الالتباس الذي ساد و يسود المرحلتين السابقة والقادمة، فان مفهوم القائد الذي يتقابل مع المرحلة الحالية، هنا، ليكسب الحاضر كل معناه.  بخطى حثيثة، ترفع عن نفسها قاذورات نظامه البالي، تنزع عن نفسها ثوبها المهترء و تجدّد شبابها، تكره الدولة أن تصاب بالهرم. الذين حذّروه، نصحوه، نبّهوه، حافظوا على مسافة ما بينهم و بينه، تناديهم و تدعوهم، الوقت وقتهم. أنها تحتاج لمن يحميها لتحميهم.  تكره الدولة أن يعبث بها و قد فعل بن علي و عليه أن يدفع الثمن. المجد، السمو، الكبرياء، الفخر، الغرور، الاعتزاز، ومضات عابرة، يخرج من التاريخ مطرودا. التاريخ لا يحفل بالأغبياء. كن مجرما، دكتاتورا، قاتلا، سفاحا، مقاتلا، و لا تكن غبيا. حاجة الدولة إلى التجدّد كانت ضرورية و بن علي لم يفهم ذلك. للدولة أن تثأر لنفسها و تنتقم منهم و منه، تمرغ وجهوهم في التراب، تتشفى فيهم، تعبث بهم، و غدا ستحاكم رأسهم الأكبر و تلقي به في دهاليز السجون أو ترميه بالرصاص. 

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...