التمويل الأجنبي أداة خطيرة وذكية للتدخل والهيمنة

بقلم الدكتور أشرف البيومي اثناء ملتقى عمان للمنظمات العربية المناهضة للهيمنة 30 نوفمبر 2006

أصبح موضوع التمويل الأجنبي لمنظمات المجتمع المدني كما تسميها قوي العولمة الرأسمالية والتي هي في الواقع منظمات غير حكومية تابعة في تمويلها وأولوياتها وفكرها لقوي الهيمنة من أهم القضايا التي تشغل كل المهتمين بقضايا الوطن والحريصين علي الأمن القومي العربي. وانتقل التخوف الموضوعي من دور هذه المنظمات من كونه تخوف نظري مرتقب إلي تخوف عملي بعد أن تبينت نتائجه العملية وأصبحت واضحة للعيان بما في ذلك الجمهور الذي أدرك بحسه الوطني بان هذه المنظمات مشبوهة ومريبة.
إن دفاعنا عن كيان الدولة و ما تبقي منها من عناصر وطنية لا يتعارض مطلقا مع معارضتنا الشديدة للحكومة وللنظام الحاكم المستمرة منذ عدة عقود بسبب تسلطه وانفراده بمقاليد الأمور في غياب واقعي لحد أدني من الديمقراطية بل واستمراره في انتهاك حقوق الإنسان ولاستمراره في القمع والبطش وممارسة التعذيب وإرهاب المواطنين وإلهائهم عن مصالحهم الحقيقية، وتفشي الفساد للطبقة الحاكمة واتباعها سياسة اقتصادية لا بد أن تؤدي إلي تفشى البطالة وتصاعدها وأن يكون من نتائجها الحتمية اتساع الظلم الاجتماعي ومزيد من انهيار المؤسسات الصحية والتعليمية والعلمية. بل علينا أن نؤكد أن أهم الدواعي الأساسية لهذه المعارضة المتصاعدة للأنظمة العربية الحاكمة هو التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية والثقافية للإمبريالية الأمريكية والأوروبية والذي يعني بالضرورة الذيلية للعدو الصهيوني العنصري. والذي يجعل هذه التبعية التي تتعمق كل يوم ونري نتائجها ومعالمها بوضوح أكبر العامل الأساسي والأهم هو تفاعله عضويا مع عوامل أخري. فما يدور علي الساحة الاقتصادية من ابتزاز أمريكي ومهانة بسبب ما يسمي بالمعونة الأمريكية والرضوخ للإملاءات الأمريكية والصهيونية بالموافقة علي الكويز الذي يضطر الحكومة المصرية من قبول شرط المشاركة الإسرائيلية في منسوجاتنا المصدرة للولايات المتحدة، وبيع الغاز الطبيعي لإسرائيل ومشاريع مشتركة في إطار المشروع الشرق أوسطي الكبير الذي يضمن مزيد من التدهور والتبعية الاقتصادية لأجيال طويلة. ومن مشاهد التبعية العسكرية المشاركة في مناورات عسكرية مثل النجم الساطع وفتح أجوائنا ومياهنا الإقليمية وتسهيلات أخري للقوات الأمريكية المعتدية علي العراق.ولا شك أن ما يدور علي حدود سيناء لخير دليل علي أن سيناء وبالتالي مصر كلها منتقصة السيادة. وصدق الشاعر الذي قال قبل حرب أكتوبر 1973 "يخوفي ما يوم النصر ترجع سينا وتروح مصر" أما مظاهر التبعية السياسية فهي متعددة منها الغطاء السياسي الذي تمنحه السلطة للاعتداءات الصهيونية/ الإمبريالية المستمرة في فلسطين العزيزة والعراق الحبيب والذي وصل إلي ذروته باحتلال ونهب وتمزيق العراق الغارق الآن في حمامات الدم متمثلا في 650 ألف ضحية العنف حسب التقرير الأكاديمي المنشور في مجلة لانست العلمية.
ومن أخطر أنواع التبعية - لأثره في المدى الطويل ولأنه يقتحم أخر معقل للمقاومة - هو العقل العربي نفسه ومن هنا نري خصوصية الخطر من الاختراق الأجنبي في صفوف المثقفين العرب بهدف تفتيتهم واحتوائهم بل وجعلهم أدوات فاعلة لخدمة 
المشروع الأمريكي الصهيوني تحت شعارات خادعة وكاذبة
.
ضد التدخل الأجنبي
ورغم هذه المعارضة الشديدة والمتصلة لسياسات حكوماتنا العربية فإننا نقف بشدة ضد التدخل الأجنبي تحت زعم الإصلاح ونشر الديمقراطية. وبعيدا عن الدفاع أو قبول ممارسات حكومتنا المستبدة فنحن نقف بشدة وصرامة ضد التدخل الأجنبي في شئوننا الداخلية تحت أي زعم أو شعار فالإصلاح والتغيير وإرساء الديمقراطية هو شأن داخلي محض لأنه إذا جاء عبر القوي المهيمنة فهو لا يمت بصلة لا بالإصلاح ولا بالديمقراطية . وهاهي العراق ترزح في النتائج المبهرة بالإصلاح وبديمقراطية الاحتلال والاغتصاب. إن النتائج الفعلية للتدخل الأجنبي هي مزيد من الهيمنة والسيطرة علي الموارد، هي إرغامنا بقبول الكيان الصهيوني العنصري. ومن يخدع نفسه بأن قوي الهيمنة العالمية ستزيح قوي الاستبداد المحلية حتى يحل محلها قوي وطنية تجلب الخير والرخاء وتجعلنا نعيش في تبات ونبات فهو إما أنه أبله يتسم بقدر عال من الغباء أو متواطأ أو كلاهما. كما أن القوي الوطنية التي تتحالف مع مثل هؤلاء بحجة توسيع المعارضة للسلطة فهي واهمة تتبني منهجا غير مبدئي كما أنه غاية في الخطورة.. أليس من الواضح أن هذا التغيير الذي تسعي له قوي الهيمنة الأجنبية يتناسق مع أهدافها التي تتناقض تماما مع الطموحات الوطنية؟ وأنه ليس هنا تقاطع في المصالح كما يدعون.إأن التغيير المنشود أمريكيا هو من أجل تثبيت نظام جديد أكثر تبعية له وجه ديمقراطي كاذب يمكنه من خداع المواطنين وامتصاص غضبهم بكفاءة أكبر. إن الاستقواء بالأجنبي لا يمثل مرونة أو دهاء سياسيا أو كما نسميه في مصر "حداقة" بل هو تفريط في الوطن مهما كانت الحجج علي الطريقة الشلبية (ليس هذا مذهبا صوفيا ولكنه طريق طعن الوطن في الصميم)

قضايا منهجية
منهج معالجة القضية التي نحن بصددها، خصوصا وأن المنهج الخاطئ لا بد أن يؤدى إلى نتائج خاطئة أو على الأقل غير كاملة.فعلى سبيل المثال هل نتناول المسألة جزئيا بأن نشير إلى العقبات الكأداء التي تضعها الحكومات أمام عمل أهلي حقيقي حتى نخرج بنتيجة مريحة وهي أنه لا سبيل أمامنا إلا التمويل الأجنبي؟ وهل يكون هدفنا قاصرا على بعض الإنجازات هنا أوهناك دون مراعاة للوسيلة التي نسلكها ؟ إذ كم من الأهداف النبيلة قد أدت في المحصلة إلى كوارث جمة نتيجة لإتباع الوسائل الخاطئة. ألا يشكل إتباع هذا الأسلوب تجاهلا كبيرا لما يخلقه التمويل الأجنبي من ديناميكية تؤدي إلى التبعية للقوى الممولة الآن أو لاحقا، ناهيك عن الخضوع لبرنامج أولوياتها الذي قد يتناقض مع أهدافنا كلية حتى وإن تلاقت الأهداف الجزئية شكليا أو مرحلياً ؟ أليس جليا أن استقلالية المنظمات الأهلية وتطوعية القائمين عليه هي الركنين الأساسيين للعمل الأهلي ودعامته المحورية؟
أليس من المهم الأخذ في الحسبان دور المنظمات الممولة في العمل على احتواء بعض المثقفين المحليين وما ينتج عن ذلك من تفتيت لأي نواة تجمعهم ؟ ألم تكن هذه المسألة دائما ولا زالت على رأس قائمة الأولويات للقوى المهيمنة الأجنبية والمحلية ؟ أليس جليا أن القيادات التي تبرز على الساحة من خلال التمويل الأجنبي تختلف في نوعيتها عن تلك التي تظهر من خلال العمل الأهلي التطوعي الذي يقاوم استبداد السلطة دون الاحتماء بقوى أجنبية متربصة.

الهيمنة وأزمة الرأسمالية
عندما نتحدث عن العولمة الرأسمالية أو الإمبريالية العالمية والاستعمار فنحن نتحدث عن هيمنة هذه القوي علي بقية العالم لاستغلال موارده الطبيعية والبشرية لمصالح طبقة ضيقة من المجتمعات المتقدمة صناعيا علميا وتكنولوجيا لاستخدام أدوات تقدمها في هذه المجالات في تحقيق الهيمنة المنشودة. إن استغلال هذه الطبقة الضيقة بالفعل والتي تزداد صغرا لا يشمل المجتمعات المتخلفة صناعيا أو التي فرض عليها التخلف فحسب بل يشمل أيضا شرائح واسعة من مجتمعاتها نفسها. و حتى لا يحسب أحدا أن هذا القول من قبل المبالغة فلنرجع لمجلة الإكونومست في عددها الصادر في 15 يوليو 2006 بعنوان "الأغنياء والفقراء والفجوة المتسعة بينهما". إن الأرقام تشير إلي أن الفجوة في الخمسينات حتى الثمانينات انكمشت وبدأت تتسع بشكل مفاجئ في أواخر الثمانينات. المجلة ترجع ذلك لزيادة أسعار البترول في 1973 بالرغم من أن هناك حدث مهم وهو تراجع ثم سقوط الاتحاد السوفيتي في هذه الفترة وتراجع مكاسب الطبقة المتوسطة والفقيرة بعد غياب الاتحاد السوفيتي. وبصرف النظر عن الأسباب فإن واحد في المائة من المجتمع الأمريكي تستأثر بأكثر من 15 في المائة من الدخل وأن نصيب هذه الشريحة في ازدياد مستمر. كما أن تقرير الفقر في الولايات المتحدة هذا العام يشير إلي أن الشريحة الأكثر فقرا والتي تمثل 20 في المائة من المجتمع كان نصيبها من الدخل household income في 2005 هو3,4% بينما كان نصيب العشرين في المائة الغنية هو 50,4% وأن الفجوة تتسع.
خلاصة القول فهناك أزمة حقيقية للرأسمالية العالمية والتي تعبر عنها بالعسكرة وبتعطشها لمزيد من الهيمنة وهنا يختلف الساسة في داخل أحزابهم في الوسائل ودرجات الاعتماد علي الابتزاز السياسي والقهر العسكري ومدي استغلال الطبقات الفقيرة ممن شعوبها وليس في الهدف التي تسعي إليه السلطة الحقيقية. إذا يختلف المزيج من وسائل الهيمنة والتي تشمل الوسائل الاجتماعية الاقتصادية والسياسية والثقافية والفكرية وأيضا العلمية والتكنولوجية والصحية والغذائية..الخ ولا تختلف الأهداف الاستراتيجية.
 
التمويل للتفكيك
وهنا سنركز علي استخدام التمويل لتفكيك المجتمع وإضعاف الدولة وإجهاض تبلور كتلة حرجة من المثقفين الوطنيين تقود تغيير حقيقي أو تقود مقاومة شعبية تغير النظام كما حدث في العديد من الدول اللاتينية مما يشير أن نجاح القوي المهيمنة ليس حتميا ومما يؤكد علي ذلك ما يحدث في منطقتنا العربية في العراق ولبنان وبدرجة ما في فلسطين وفي نفس الوقت لا يعني هذا النجاح أن قوي الإمبريالية ستكف عن سعيها في إفشال واحتواء هذه النجاحات بطرق ملتوية منها إشعال فتن طائفية او إثنية ومنها بكل تأكيد التفتيت والإجهاض عن طريق المنظمات الممولة والأحزاب السياسية الممولة وهذا ما نراه بالفعل الان وبالذات في تونس و لبنان

استخدام مصطلح "المجتمع المدني" في إطار العولمة الرأسمالية والتسويق النيوليبري للديمقراطية
نتسائل لماذا تعطى الأولوية الانتقائية للمنظمات الغير حكومية في صياغة مفهوم "المجتمع المدني" من قبل مؤسسات صناعة التمويل وليس لمجالات أنشطة مرتبطة بهذا المفهوم (مثل الأحزاب السياسية والنقابات والنوادي والجمعيات التعاونية الفلاحية والصالونات الفكرية والإعلام) ؟
لماذا نجد أن في عملية تسويقها "للديمقراطية" تلجأ مؤسسات صناعة التمويل إلي مجموعات غير منتخبة وليس لها علاقة واضحة ببنية فعالة للمساءلة ؟
لماذا يتدفق التمويل علي المنظمات الغير حكومية من مؤسسات دولية حكومية و "غير حكومية" ؟
ما هي عواقب إخضاع النشاط السياسي لقوي السوق أي تسليعه ؟

"المجتمع المدني : تعدد المعاني والأيديولوجيات"
فعلي سبيل المثال تصور الحكومة الأمريكية لمستثمري الأموال من مواطنيها في هيتي بأنهم يشكلوا قلب المجتمع المدني فيها مما يثير السخرية. وهذا يدل علي أن الاستخدامات المختلفة لمصطلح "المجتمع المدني"هي في الأساس تعبير عن توجهات أيديولوجية مختلفة.
وبتشابه واضح للفلسفة المصاغة في مشروع المحافظين الجدد الأمريكيين( المعروف بمشروع القرن الأمريكي الجديد Project for the New American Century ) يتواكب التوجه المحافظ الجديد نحو "المجتمع المدني" مع غرض امتصاص أي تحد هيمني لمنافع رأس المال الإنتاجية "عابرة الأوطان".بالإضافة إلي ذلك فإن الأيديولوجية المحافظة الجديدة ( وكذلك الليبرالية التعددية) تعطي دورا محوريا لل"مجتمع المدني" بالنسبة "لاستدامة" للديمقراطية.
وهناك أيضا تساؤل أساسي عن عواقب تسليع النشاط السياسي. والمهم في هذا الأمر هي مسألة مصب عمل المنظمات "المجتمع المدني" بصرف النظر عن النوايا أو "الوعي السياسي". وفي هذا الصدد تعتقد أرانداتي روي أن " رأس المال الذي يوفر للمنظمات الغير الحكومية يلعب نفس الدور بالنسبة للسياسة البديلة الذي يلعبه رأس مال المضاربة الذي يدخل ويخرج من اقتصاديات البلاد الفقيرة. فهو يبدأ بإملاء جدول الأعمال والأولويات، ويحول المواجهة إلي مفاوضات وينزع السياسة عن المقاومة، وكذلك يتدخل في الحركات الشعبية المحلية التي عادة ما تكون معتمدة علي النفس"(12). فبناء علي هذا يكمن "المجتمع المدني" في الارتباط بين الدولة والاقتصاد
إن تسويق الديمقراطية يمتد أيضا إلي مجتمعات تطوعية أخرى مثل النقابات المهنية أو الاتحادات أو الأحزاب السياسية ـ ففي الواقع أن الاهتمام الكبير بالمنظمات الغير الحكومية ما هو إلا جزء من استراتيجية مجربة ومكررة لتفريغ مركزية التحكم ضمن عملية تستهدف إلي التحليل النهائي للاستيلاء عليها  لفرض شروط للمنح كما هو الحال بالنسبة لحالات معروفة متعلقة بهيئة المعونة الأمريكية ومؤسسة فورد التي أضافت تعهد لاتفاقيات التمويل بناء عن خطاب جاء ما من عضو الكونجرس الديمقراطي عن ولاية نيو يور جيرالد نادلر يطلب فيه من فورد أن "تمتنع عن تمويل المجموعات الفلسطينية المعادية للسامية وبالذات (أحد المنظمات التي كانت ناشطة ومؤثرة في مؤتمر (معارضة) العنصرية في ديربان بجنوب أفريقيا فمؤسسة فورد الآن تفرض تعهد مثل التي تفرضه الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. لا تمنح اعتماداتها إلي "مجموعة تدعو إلي أو تولد التعصب أو العنف، أو تتحدى تمهل تهديداً لوجود دول شرعية وسيادية مثل إسرائيل
مصطلحات تجميلية 
"كثير من عناصر المجتمع المدني تقلل من الكراهية والعنف وتشجع وتشجيع المسئولية الاجتماعية والمساعدة المتبادلة بين المجموعات في الأوقات الاقتصادية الصحي وفترات التحول السياسي تصحيح منظمات المجتمع المدني ذات أهمية شديدة في تلطف أو مع خطر العنف الجماهيري. والعديد من مؤسسات القطاع الخاص علي المستوى العالمي تحاول منع هذه الصراعات العنيفة.(تقرير لجنة كارنيجي حول منع الصراع العنيف 1997)
تحول الخطاب التنموي من بداية عقد الثمانينات إلي تبني من المصطلحات الخبيثة التي تحمل العديد من السياسات الاجتماعية ذات العواقب الوخيمة. فمصطلح "المجتمع المدني" عادةً ما يختزل المفهوم ليعني المنظمات الغير حكومية، ويتبع هذا المصطلح كلمات خادعة أخرى كالمشاركة و "التمكين" والمقرطة الناجحة. ومع صعود وفرض النيوليبرالية علي العديد من المجتمعات في العالم (تارةً بالطرق السلمية والتحرير الاقتصادي المرتبط ببرامج إعادة التكيف الهيكلي وتارةً بالقوة العسكرية كما هو الحال في يوغوسلافيا والعراق). إن هذه المصطلحات تساعد في إعادة تدوير الخطاب الذي يبرر تدخلهم المستمر وتعديهم أهدافهم الاستراتيجية . فلقد تم صياغة مصطلح المجتمع المدني بحيث يصبح أداة أساسية لخدمة الفكر التنموي لهذه المؤسسات . يرتبط بشدة بمجموعة من "الروشيتات" التي ترى في الأسواق المتنافسة شرط للتطور الرأسمالي وقد احتلت هذه الفكرة موقعها المركزي في فترة الثمانينات التي اتضح فيها فشل النموذج الاقتصادي النيوليبرالي.

تناقضات وإزالة الغموض
تركز المنظمات الغير حكومية علي انتهاكات حقوق الإنسان المحلية والتركيز علي قضايا مثل المثليين وطهارة الإناث وفي نفس الوقت تتسم نفس هذه المنظمات بالصمت عن التواطؤ الحقيقي للمانحين الغربيين بالنسبة لانتهاكاتهم الرهيبة لحقوق الإنسان مثل المذابح التي يقترفوها في فلسطين ولبنان والعراق.

الهيمنة بوجه إنساني
إن مجرد نظرة عابرة تتعدى التفاؤل المنتشر والغير مبرر الذي يساوي صعود "المجتمع المدني" بالسير المتقن نحو علاقات قوى متكافئة متوجة بالديمقراطية ، تكتشف عن زور الوعود النيوليبرالية التي تبشر بمعجزات "المجتمع المدني" في المرحلة الحالية لتطور الرأسمالية الكونية، بل أنه في الواقع قد ارتبط صعود "المجتمع المدني" في منطقتنا العربية / الأفريقية ، ومناطق أخرى من العالم ، بتراجع دور الدولة ومعها حقوق متعددة للمواطنين بالنسبة للصحة والتعليم وعلاقات النوع والمساواة والأمان العام . هذا بالإضافة إلي تحولات سيئة أخرى علي نطاق العالم وليس من أقلها النزاعات الطائفية ، بالإضافة إلي صعود أهمية العمل العسكري علي الدبلوماسية في العلاقات الدولية.
أما بالنسبة لخصخصة المعونات الدولية لصالح المنظمات من غير الحكومية من قبل الحكومات الاتحاد الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية ، فهي متناسقة مع محاولات دمج فقراء العالم (المفترض أنهم المتقدمون من اهتمام وكرم المنظمات غير الحكومية) في دائرة الاقتصاد النيوليبرالي . وهكذا نجد أن "الدمقرطة" عبر "المجتمع المدني" ما هي إلا شكل مقنع للعملية الرأسمالية لتحرير الاقتصاد . ففي هذا الإطار نجد أن المنظمات الغير حكومية المستقلة تتولى مسئولية الحفاظ علي السلام الاجتماعي عبر إدارة الخصومة الاجتماعية المتأصلة بنيويا (49) وبتحويل توقعات "احتواء" الخلافات الاجتماعية عبر "المجتمع المدني" إلي تناغم "مهذب" يسهل التخلص من مفهوم الصراع الطبقي علي أنه يشجع علي الانقسامية.
فمن الواضح أن العدالة الاجتماعية أصبحت قضية مهمشة ولا تمثل خطر علي النظام الاستغلالي العالمي القائم وذلك في إطار تسلط فكرة الخلاص عبر المنظمات الغير حكومية التي سوقت علي أنها ستعبر بمقهوري العالم إلي شاطئ "الديمقراطية وتزيح الدولة "المستبدة" عن عرشها. وليس صدفة أن يزداد الاهتمام بالـ "مجتمع المدني" من قبل المؤسسات النيوليبرالية العالمية التي تعبر عن نوايا مبرمجة لاحتواء التجمعات الفعالة شعبياً . إن التحليل النقدي الذي قام به مثقفون من حول العالم (مثل سناء المصري وعادل سمارة وإبراهيم علوش وأرانداتي روي وجيمس بيتراس) وضع في مقررة الاهتمام علاقات القوى البنيوية وآليات إبعاد النشطاء عن طريق السياسات التقدمية.
بالنسبة لمنطقتنا العربية فقد أصبح من الواضح العلاقة بين الزيادة الملحوظة في عدد المنظمات غير الحكومية والممولة من قبل حكومات أجنبية والمشاريع الإمبريالية والتي تشمل ، بالإضافة لمشروع الصهيوني القائم ، مشروع الشرق الأوسط الكبير ومشاريع التطبيع في العديد من المجالات وليس الاقتصادية فقط وإن لم يكن قد رفع الغموض لدى البعض عليهم إعادة قراءة الصحافة المصرية التي أعلنت مهرجان عن الحوار بين رموز "المجتمع المدني" وبعض الرسميين من الإدارة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. فهؤلاء هم نفس القوم الذين يسوقوا "عملية السلام" في منطقتنا ويخدمون مصالح حكومات "قوات التحالف" التي تتبع خريطة طريق فيتنام في تدمير الفلوجة لغرض "إنقاذها".ومن المنطقي أن تتوقع زيادة تكاثر هذه المنظمات التي تمثل في ظل الخراب الناجم من عن النيوليبرالية آخر المطاف للتوظيف لمن كانوا سيصبحون نشطاء في حركات المقاومة.
ليس مسألة انغلاق فكري
والأمر بالنسبة ليس مسألة انغلاق فكري ، خصوصا وأن الذين يحذرون من مغبة التمويل الأجنبي ويرفضونه هم نفسهم الداعون للتحالف مع كل القوى الشعبية العربية والدولية المناهضة للهيمنة والعنصرية والداعية لاحترام حقوق الإنسان في فلسطين والعراق ومصر وأمريكا ذاتها وفي كل مكان، كما أن المسألة ليست مجرد التشبث بموقف مبدئي رغم أهمية ذلك.
إن مصادر التمويل الأجنبي هي التي تفرض قيادات المجتمع المدني الحالية والتي ترحب بالتمويل الأجنبي وشروطه وتتمتع بقبول لدى الجهات الممولة ولكنها ليست بالضرورة محل ثقة الجمهور ورضائه. ألا يمثل هذا اختراقا حقيقيا للمجتمع وقلبا للأوضاع الصحيحة، التي يجب أن تقوم على إنتاج القيادات الملتصقة بقضايا شعبها من خلال العمل التطوعي الأهلي وليس العمل مدفوع الأجر أجنبيا ؟ 
أليس من المهم أن نتساءل عن أهداف الممولين الأجانب وعن ممارساتهم السابقة ونتائجها في أماكن أخري ؟
ألا يجهض هذا النوع من التمويل الهدف الأساسي من تكوين الجمعيات الأهلية باعتبارها ووسيلة جماعية للمشاركة والضغط من أجل تغيير حقيقي ينبثق من أولويات شعبية متناسقة مع الأهداف الوطنية ؟
من الذي يقيم فائدة ومساوئ التمويل الأجنبي لمنظمة ما ؟ هل يمكن لقيادات هذه المنظمات أن يقوموا بذلك أم أن هناك تناقضا صارخا في المصلحة ؟
هل صحيح أن هناك تباينا أساسيا بين أهداف الجهات الممولة المختلفة ، مثلا بين التمويل الأمريكي والأوروبي؟
أليس واضحا أن التمويل يشجع على الفساد المالي خصوصا وأن الممولين لا يعطون هذا الجانب أهمية حقيقية وغالبا ما يتغاضون عن الانحرافات المالية لأن أحد أهداف التمويل هو خلق أفراد ومجموعات ترتبط مصالحهم بالجهة الممولة وإن أمكن جعلهم موالين لها .
من السهل اتهام من يثير مثل هذه التساؤلات بالفكر التآمري وذلك لتسطيح المواقف وللهرب من البحث عن إجابة لهذه التساؤلات. القضية إذا ليست مجرد مشكلة تتعلق بأمانة الذين يحصلون على التمويل أو بمدى نفوذ ونوعية قيادات المنظمات الممولة أو حتى ببعض الفوائد الظاهرة والمباشرة المتعلقة بنشاط هذه المنظمات، وليست أيضا في مقارنة المنظمات أو الأشخاص المرتبطين بها أو الجهات الممولة بعضها ببعض ، وذلك لتفضيل بعضها على الآخر. إن القضية أكبر بكثير من ذلك.
يرى البعض للأسف أن الاتجاه للتمويل الأجنبي في ظل حصار السلطة المصرية لأي عمل أهلي مستقل سواء الجمعيات الأهلية أو النقابات أو الأحزاب هو مخرج منطقي. هذا يذكرنا بقصة الأسرى البريطانيين في سجون اليابانيين في جنوب شرق آسيا عندما رفض الجنرال البريطاني أن يأخذ جنوده الأوامر من الجنرال الياباني مباشرة وأصر رغم تعرضه للتعذيب الشديد أن يعطي هو الأوامر لجنوده وعندما رضخ الجنرال الياباني لطلبه قام بنشاط وهمة كبيرة بتحقيق هدف اليابانيين بإنشاء جسر على نهر كواي (Bridge On River Kwai) لنقل المعدات العسكرية اليابانية لهزيمة الجيش البريطاني. في النهاية حقق الجنرال البريطاني هدفا شكليا وهامشيا بينما ساهم بشكل فعال في تحقيق هدف هام لأعدائه. والسؤال هنا ما هو الجسر الذي تبنيه المنظمات الأجنبية في بلادنا ؟
إن الأسباب الموضوعية لرفضنا التمويل الأجنبي هي نفس الأسباب التي جعلتنا نحذر من مغبة ما يسمى بالمعونة الأمريكية المرتبطة باتفاقات كامب دافيد التي ابتدأت منذ ربع قرن، وهانحن الآن نجني ثمار هذه السياسة الحمقاء من تراجع شديد لاستقلالنا الاقتصادي والسياسي والأمني ومن معاناة معيشية للسواد الأعظم من الشعب المصري، في حين جنت قلة منتفعة ثروات طائلة وهربت أموالا ضخمة للخارج. لذلك فمن المستهجن أن يسوق دعاة التمويل الأجنبي اعتماد الدولة على المعونة الأجنبية، لتبرير حصولهم على التمويل الأجنبي.
كما أنها تناولت قضايا أخرى لاشك في أهميتها مثل حقوق المرأة من منظور ضيق اختزالي، بدلا من اعتبارها جزءا من قضية مجتمع يعاني كل أفراده من انتهاكات خطيرة لحقوقهم المدنية والسياسية، بالإضافة إلى حقوقهم الاقتصادية والاجتماعية. وتقع خطورة هذا المنهج في تفكيك قضايا المجتمع بعيدا عن المعالجة الشاملة وبذلك تغيب جوانب أساسية مثل المسار الاقتصادي أو نهج التبعية لقوى الهيمنة الأجنبية، كما تكمن في تشتيت جهود المهتمين بالعمل العام ومنع بلورة الكتلة الحرجة اللازمة لقيادة تغيير حقيقي.
إن هذا المنهج التجزيئي يستخدم من قبل قوى الهيمنة المختلفة من أجل صرف النظر عن مكمن الداء، وطالما أدى إلى تشخيص خاطئ للمشاكل يتبعه علاج فاشل ، وكذلك يؤدي إلى إحباط البعض لعدم جدوى الجهود المبذولة.
والأخطر من ذلك أن بعض الجمعيات الممولة أجنبياً انصاعت إلى توجيهات أجنبية لإدانة العمليات الاستشهادية في فلسطين والعراق باعتبارها انتهاكا لحق من حقوق الإنسان ، بل حاولت بعض هذه المنظمات إعاقة مساواة الصهيونية بالعنصرية في مؤتمر ديربان 2002. هذا مما يفضح بعض أهداف هذه المنظمات وأولوياتها. بل أن بعض قيادات المنظمات الممولة أجنبيا سمحوا لأنفسهم أن يكون أداة دعائية في يد مسئولين في الإدارة الأمريكية التي تنتهك حقوق الإنسان في العراق كل يوم، وفضائح أبو غريب لا زالت ماثلة في الأذهان. بل إن مؤسسة فورد قد أعلنت إنهاء تمويلها لمؤسسات فلسطينية بحجة أنها معادية للسامية أي أنها تعادي إسرائيل وتتطلب تعهدات من المنظمات التي تمولها يأنها لا تمثل تهديدا لوجود دول شرعية وسيادية وخصت بالذكر إسرائيل.
إن أحد أهداف العمل الأهلي هو بناء القدرة الذاتية للجمعيات، وأن تكون قوة هذه الجمعيات مستمدة من أعضائها ومن مصداقيتها ومواقفها المبدئية. فهكذا يتعود الناس على العمل الجماعي الأهلي الذي يؤدي إلي توليد ثقة الناس في أنفسهم ، وليتواصل عطاؤهم وتتراكم خبراتهم ويصبحوا قوة فعالة في المجتمع ، فيعتدل الميزان ولا تجور السلطة على حقوق الشعب. إن جوهر الديمقراطية الحقيقية هو المشاركة في القرارات والشفافية والتوازن بين كافة القوي والمراقبة الشعبية وضمان حرية وحقوق الجميع دون أي استثناء واختيار الشعب قياداته بحرية وعلي كافة المستويات. إن من نتائج الديمقراطية الأصيلة وأحد أهدافها هي التفعيل الأقصى لكل قوى المجتمع وكافة طاقاته. وبالتالي فإن أحد التساؤلات الهامة هو يحقق التمويل الأجنبي هذه الأهداف أم يعيقها بل يساهم في إجهاضها؟ إن التمويل الجاهز من جهات أجنبية يجعل المشاركة الأهلية غير ضرورية، بل أن الأولوية تصبح للعمل الدعائي والنشاطات الشكلية بهدف ملء التقارير لضمان استمرار التمويل. هذا لا يعني أن المنظمات التي تتلقي التمويل ليست لها بعض الإيجابيات ولكنها هذه الإيجابيات تتضاءل أمام السلبيات والمخاطر التي نوهنا عنها. والجدير بالذكر أن هذا ينطبق علي المعونة الأمريكية فآثارها المدمرة تفوق بكثير أي فوائد مباشرة. وعلينا أن نؤكد مرة أخري ضرورة التحليل الشامل الذي يأخذ في الحسبان كل النتائج في المدى القصير والبعيد ويهتم بكل الأهداف الظاهرة والخفية ويحلل ما تخلقه الوسائل من دينامكية ومناخ رديء أو فاسد.
لكل هذه الأسباب المجتمعة فإن جمعية أنصار حقوق الإنسان بالإسكندرية رفضت وترفض أي تمويل أجنبي، وتضع العبء الأكبر في هذا الموضوع علي الحكومة وليس فقط المتلقيين للتمويل الأجنبي فوزارة الشئون الاجتماعية تستطيع بسهولة منح إعانات مناسبة للجمعيات الأهلية من ميزانية الدولة التي يساهم في إيراداتها دافعوا الضرائب من الشعب دون أي شروط أو قيود سوي المراقبة المالية لضمان الشفافية والأمانة. 
والآن نقدم بعض المقتطفات الصادرة عن الموقع الإلكتروني للصندوق القومي الأمريكي للديمقراطية( دون أي تعليق):
" تاريخ الـ NED: بعد الحرب العالمية الثانية، واجهنا تهديدات لحلفائنا من الدول الديمقراطية.. فلجأنا إلى طرق مقنعة(بشد النون) وذلك بإرسال مستشارين سريين ، أجهزة وتمويل لدعم صحف وأحزاب تحت الحصار في أوروبا وعندما عرف في الستينيات أن بعض المنظمات الخاصة الأمريكية تحصل على تمويل سري من المخابرات المركزية الأمريكية لشن حملات فكرية في المحافل الدولية، قررت إدارة الرئيس جونسون إنهاء هذا التمويل، وأوصت بإنشاء آلية خاصة وعلنية لتمويل نشاطات ما وراء البحار علنا. …. وفي عهد الرئيس كارتر أصبح الاهتمام بحقوق الإنسان محوريا في السياسة الخارجية الأمريكية… وفي نهاية السبعينيات اقترح إنشاء منظمة غير حكومية شبه (ظاهريا) مستقلة quasi-autonomous هدفها نشر حقوق الإنسان وإنشاء مؤسسة حقوق الإنسان والحرية Institute of Human Rights and Freedom لتقديم المعونة المالية والتقنية للمنظمات غير الحكومية في الخارج ، مثل مؤسسات الـ Stiftungen الملحقة بالأحزاب الألمانية.. وفي عام 1979 في عهد الرئيس ريجان أنشأت المؤسسة الأمريكية السياسيةAmerican Political Foundation لنشر الديمقراطية في العالم .. مولت المؤسسة الجديدة من الإيد AID (المقصود هنا منظمة المعونة الأمريكية) ، واقترح إنشاء الـ NED لتمويل ونشر الديمقراطية في العالم ورصد حوالي 31مليون دولار لهذا الغرض، بالتنسيق مع وزارة الخارجية والوكالة العالمية الأمريكية USIA، من أهدافها " تشجيع تنمية الديمقراطية بالتناسق مع مصالح أمريكا والمجموعات التي تحصل على المعونة .. وكان التمويل يرسل عبر الـUSIA إلى NED …. زود الكونجرس الأمريكي الـ NED بتمويل خاص للقيام بمبادرات ديمقراطية بما في ذلك في بولندا عن طريق منظمة التضامن العمالية Trade Union Solidarity و أيضا في تشيلي ونيكاراجوا .. .. وشرق أوروبا للمساعدة في المرحلة الانتقالية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي ، وفي بورما وجنوب أفريقيا والصين والتبت وشمال كوريا والبلقان… بعد ذلك قامت الNED بإعانة عدد من المجموعات المدنية بما في ذلك الذين لعبوا دورا أساسيا في الانقلاب الانتخابي في سيربيا في خريف 2000 ،ومؤخرا بعد 11 سبتمبر رصد تمويل خاص للدول التي بها كثافة سكانية مسلمة في الشرق الأوسط و أفريقيا وآسيا."
Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...