تونس ... الى أين؟

في التجربة الإنسانية عبر القرون، كان محرك كل الثورات الشعبية الحقيقية إما مرجعية فكرية فلسفية أومرجعية أخلاقية دينية، حملت هذه الثورات ورفعتها الى مستوى لائق بؤهلها الى إحداث تحول جذري يحدد مسارا جديدا في حياة الإنسان يشمل كل مظاهر حياته على الستوى الفردي أو ما يتعلق بالبعد الإجتماعي لكينونته

وحتى نفهم الفهم الصحيح لما يحدث في تونس اليوم، يجب أن ندرك طبيعة ما أطلقنا عليه عنوان "ثورة الكرامة" والمحرك الذي دفعها حتى تصل الى عاصمة الوطن وتسقط المستبد وأسس دولته، والمآلات التي نتجت عن هذا السقوط، والمعالجات التي تمت في ضل التطورات التي تلت تمزق أوصال المنضومة الحزبية للتجمع الدستوري الذي كان يحكم ، والهيكلة السياسية والمؤسساتية التي كانت ترتكز عليها الدولة التونسية، أقول تمزق ولا أقول تفكك. 
الذي نراه ونستشعره اليوم في تونس هو نوع من التيه والضياع وفقدان الإحساس بالتموقع في الحيز التاريخي والجغرافي، وهو أمر طبيعي يحدث للتونسين بعد أن كسروا نسقا مملا محبطا دام ستون سنة، والذي أصبح بموجب ذلك حاجزا نفسيا يعيق أية حركة ارتقاء طبيعي، وذلك لأسباب متنوعة ومتعددة. 
فلا عجب أن نرى أسراب الدعوات التي ترفع مختلف الشعارات بدءا باللائكية وانتهاءا بالعلمانية على فرض أنها ليست دعوات مدبرة، الغاية منها التضليل وذر الرماد في العيون بغاية الإلهاء عما هو أهم. 

لقد مورس على أهل تونس، ولمدى عقود، مؤثر خطير يتمثل في سياسة استئصالية هدفها إخراجهم من حيز الإنتماء ومن بوتقة التناظر الحظاري، الذي يحدد موقع الأمم ومكانتها في التاريخ، الى جماعة انسانية تفتقد أبسط مقومات الحظور والتواجد الحيوي، دع عنك القدرة على التأثير والتأثر، سلبا وإيجابا، في حركة التاريخ والصيرورة الإنسانية. 
كان أهل تونس، بتعبير بسيط، كالريشة في مهب الريح، ضعفاء يتلاعب بمصيرهم ومستقبلهم أعدائهم الداخليين والأقوياء من الأمم التي تحيط بهم، هؤلاء هم الذين سلبوهم سلطتهم وحقهم في تقرير مصيرهم بشتى الذرائع والمسوغات. 
هذا الذي يدفعنا الى التساؤل عما إذا كان لثورة الكرامة في تونس مرجعية فكرية وفلسفية، أم عقيدة سياسية وإيديولوجية صرفة، أم مشاعر دينية جياشة، أم ماذا في حقيقة الأمر؟ 
إنه خليط تراكمي من كل هذا، يجعل الصورة أكثر تعقيدا كي نستطيع فك تشفيرها. وهذا من جملة العوامل التي تضطرنا الى إعادة النظر في هويتنا، أو يتعبير أدق علينا أن نتساءل: من نحن؟ وماذا نريد أن نكون؟ 
أوروبا التي تعتبر مهد الحظارة الغربية، حددت هويتها بشكل رسمي من خلال الوحدة الأوروبية، بأنها تعتز بجذورها الثقافية والحظارية اليهودية-المسيحية، وبذلك تتميز أوروبا على بقية أمم الأرض، وعلى أساس ذلك تبني عقيدتها واستراتيجاتها السياسية في الداخل والخارج. 

بناءا على ما سبق بيانه، ماذا يتوجب علينا أن نفعل؟ 
هل نسبح في اتجاه التيار، وبالتالي نخظع للإملاءات الخارجية، أم نحدد موقعنا في التاريخ والجغرافيا ونفعل ونتفاعل بناءا على ذلك، متكبدين كل التضحيات والمتاعب؟ 
علينا أولا أن نعترف أننا تائهون وخائفون، يغلبنا الإحساس بالظلم والضيم والضعف والإحتياج لمن ينقذنا ويخرجنا من المتاهة التي ألقينا بأنفسنا فيها أو ألقانا فيها التاريخ كرها. 
وباعتبار أننا تعودنا على التفويض لغيرنا، يدير شؤوننا دون محاسبة أو مراقبة، ورضينا بذلك لعقود طويلة، فإنه يصعب علينا اليوم الأخذ بزمام الأمور والإعتماد على قدراتنا الذاتية التي لا نعدمها، بل المفارقة أن هذا ما يجعلنا ننزع الى الشك في نجاحنا في تخطي مرحلة البداية في إعادة بناء كيننا على أسس جديدة. 
فلا عجب أن نسمع التشكيك في جدوى هذه الثورة وأنها لن تجلب علينا الا الدمار و"الدخول في حيط" كما يعبر عنه البعض. 
ولا عجب أن نرى تردد الأحزاب والجمعيات والقوى الحية في البلاد في اعتماد "المجلس الوطني لحماية الثورة" كهيكل شرعي يمثل طموحات الشعب التونسي في تحقيق أهداف الثورة، والتخلي عنه بهذه السهولة لتحويل قبلتهم الى هيكل متكون من عناصر مشبوهة لا تمثل الثورة أو حتى الحس الثوري، ناهيك أن تحقق طموحات الشعب التونسي، لا لسبب سوى أنه تم الرضى عنه من قبل ما يسمى بحكومة منصبة من قبل شرعية مفروضة من واقع سبق الثورة التي هدمته. 
كيف يقبل التونسيون هذا الخلط في الأوراق وهذا التغول المقيت ودماء شهداء القهر لم تجف بعد؟ 
لن ننجح في تخطي عتبة التردد إن لم نحدد يشكل حاسم من نكون، وما هي جذورنا وشخصيتنا الحظارية؟ وما هو نظام الدولة التي نريد؟ 
ثم بعد ذلك نحدد مشروعنا الحضاري والإستراتيجية التي سنعتمدها لترجمة هذا المشروع الى واقع عملي ملموس. 
نحن اليوم نركز على الآليات وهو الفرع، ونسينا البحث والتدقيق في الأصل وهو هويتنا بين الأمم، وبدون هوية لن يكون لنا مشروع، وبدون مشروع حضاري لن يكون لنا وجود. 
إن لم نتدارك الأمر فسوف نعود الى سابق العهد كما يتمنى خسيسي القوم، ونرجع أذلة يدوس على رقابنا كل متلهف على السلطة ، ويعود القهر والإستبداد، فنرجع الى سباتنا نصف قرن آخر، في انتظار انتفاظة أخرى وبوعزي آخر يخرجنا من سباتنا العميق، ونعود الى الأرائك نترشف الشاي بالنعناع ونرتوي من رحيق قناة "نسمة" المسوم، ونشاهد انهيار الأمم على قناة الجزيرة. 
أقول لكم صراحة : 
خير لي أن أموت برصاصة غادرة في ساحة القصبة من أن أعود الى تونس ما قبل وقفة الأبطال يوم 14 جانفي المشهود أمام مقر وزارة القمع، ولن أقبل لنفسي أو لغيري منفى آخر حتى لو كان في أجمل بلاد الأرض، لأن حفنة من التونسيين غلبوا المصلحة الشخصية أو الحزبية الضيقة على مصلحة الوطن الذي يؤوينا جميعا. ولكنني لم أيأس بعد ولم يصبني الإحباط لأنني على يقين أن في كثير من أهل تونس من الإخلاص والحب لهذا البلد ما يجعلهم يواصلون النظال حتى تتحقق كل أهداف الثورة. 

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...