البرهان على فساد المطالب بالعلمانية واللائكية بتونس


لم يكد يفرح التونسيون بثورتهم، حتى أطل من أبى إلا أن يفسد عليهم بهجتهم، أطلت عليهم وجوه كالحة من زمن القحط العقدي، لتذكرهم أن تونس قد انحرفت كثيرا طيلة نصف قرن، بحيث يلزم لأعادتها للسبيل مجهود استثنائي.
دعاة التبعية هؤلاء المنادون بوجوب عزل الإسلام من أن ينظم المجتمع بتونس، من خلال مطالب اللائكية والعلمانية و الحداثة، هؤلاء المتسلطون على التونسيين أبدا، جمعوا السوء من كل جنباته، لم يكفهم الانبتات عن ثقافة التونسيين والارتضاء بدلها ثقافة الغرب وفرنسا تحديدا، فإنهم جمعوا لذلك وقاحة قلّ نظيرها، إذ جعلوا أنفسهم أوصياء على التونسيين وطالبوا بوجوب إخضاعهم لتصوراتهم، وهم لذلك يتحركون ويثيرون الضجيج، رغم قلتهم فإنهم يستعرضون قوتهم التي تجاوز حجمهم الحقيقي، لم يسعهم أن يسكت التونسيين عن انحرافاتهم التي يصورونها فكرا ومبادئ، يعيشونها بين جدرانهم الخاصة، وفي عوالمهم الصغيرة الموبوءة، بل أصروا على إخضاع ورثة حضارة الإسلام بتونس، ان يلتحقوا بمركب التبعية لفرنسا كما ركبوه هم من قبل.

عصابات الفساد الثقافي تتحرك ضد التونسيين


أطلت على التونسيين عصابات طالما كانت أدوات لدى النظامين البائدين،عملت على تشكيل أذهان التونسيين منذ نصف قرن، من خلال المستويين المتوازيين، الاقتلاع من الجذور والإلحاق بالغرب وبفرنسا تحديدا.

أطلت علينا وجوه منكرة، لتأكد أن شجر الزقوم الذي زرع غصبا بتونس منذ نصف قرن، قد أينع وشبّ، بل إنه قد أثمر، وأنجب زرعا حراما علقما يأبى إلا أن يذيق التونسيين مرارته. لقد شبّ هذا الشجر عن الطوق فهو يدافع عن ذاته، يدافع عن منظومة الزقوم التي نشأ من خلالها، ممثلة في ثقافة التسيب والانحلال والتبعية، إنها ثقافة تغالب الإسلام وتحتقر اللغة العربية.
هؤلاء ثمر حرام مرّ يدافع عن زارع شجرة الزقوم ممثلا في فرنسا والغرب، إنه ثمر مرّ حرام يدافع عن راعي وساقي شجرة الزقوم، ممثلا في نظامي بورقيبة و بن علي وإن كان دفاعا بطرق ملتوية.

أطلت على التونسيين وجوه خلناها راحت مع من راح من نظام الاستبداد، ولكن يبدو أنها كانت أقوى على التملص من النظام نفسه، كانت أقوى من رموز الفساد المالي والفساد السياسي التي مثلت اهتمام التونسيين ومتابعتهم ومحاسبتهم.

إنها مفارقة ثورة تونس، إذ في حين أن رموز الفساد الثقافي، أخطر أدوات النظامين السابقين الذين عملوا على تصميم ورعاية منظومات تفكيك الهوية التونسية وإلحاقها بفرنسا، يبقون متخفين تماما رغم جرائمهم بحق تونس، فإن من هم أقل منهم خطرا وهم رموز الفساد المالي والسياسي يلاقون المحاسبة.

إنها مفارقة ثورة تونس، أن الذي سرق المال وأفسد في السياسية يحاسب، وأما الذي عمل على تصميم وإنتاج أدوات تشكيل أذهان التونسيين لتسخيرهم لفائدة الاستبداد يبقى طليقا، بل وإنه يمضي كأن شيئا لم يكن، بل وإنه ليقدم كقدوة، في شكل صحافي أو كاتب أو مسرحي أو معلق سياسي أو أستاذ جامعي، يتصدر شاشات التلفزة ليتكلم ويوجه وينتقد الإسلام، يا له من زمن رديء.

إنها مقارقة تونسية، أن الذي نشا لخدمة ثقافة الغير، وسخر طاقاته وعمل طوال حياته لهدم دينه ولغته، يملك من الجرأة حدا أن يصور جرائمه على أنها مشروعة، بل وتستحق أن يدعى لها، فتسيّر من أجلها المظاهرات، وتنظم لها المسيرات، وتقام الاعتصامات للمطالبة بها، وتنشر البيانات الصحفية حولها، من دون أن يلقى معارضة تذكر من التونسيين، إلا أن يكون من فتية حركتهم غيرتهم على دينهم وهم يشاهدونه موضع التهجم، فانطلقوا صادين لتظاهرة سوسة بتظاهرة موازية، فكان أن سفههم الإعلام المشبوه، وانتهى الحدث بان صور دعاة التبعية كأبطال، وثلة الإيمان كأشرار.

عوض أن يكون مآل الشراذم دعاة التبعية المحاسبة على جرائمهم في حق التونسيين، إذ تآمروا عليهم لفائدة النظام البائد، ثم على جرائمهم في حق تونس ككل، إذ تآمروا عليها لفائدة الغير وفرنسا تحديدا، فإنهم يملكون الجرأة أن يطالبوا باستبعاد الإسلام من التأثير على مجريات المجتمع، بل ويطالبون أن يقع التنصيص على هذا الإبعاد في الدستور، بل إن منهم من يقدح في الصريح المحكم من كتاب الله، مقابل سكوت التونسيين ومواتهم الغريب.

البرهنة على فساد المطالب بالعلمانية واللائكية بتونس


ما انفك دعاة التبعية يتحركون بطرق منتظمة، ورغم قلة عددهم، فإنهم لايعدمون فاعلية ملحوظة، لعلها متأتية من وقوف جانب كبير من الإعلام التونسي معهم، فإن الإعلام ذاته يمثل احد مراكز قوتهم، كما أن فرنسا تدعمهم كثيرا بأشكال مختلفة، منها المباشر من خلال علاقات مع مراكز وشخصيات ثقافية وإعلامية ومالية أو غير مباشرة من خلال التغطية المكثفة للإعلام الفرنسي لتحركاتهم. ومجمل تحركات هؤلاء تتمحور حول المطالبة بتبني العلمانية واللائكية (حقيقة فإن المفهومين متقاربين)، وقيم الحداثة كما يقولون.

وأنا هنا سأثبت فساد هذه المطالب من خلال منهجين، من دون الحاجة لمناقشة محتويات هذه المفاهيم ذاتها.

المنهج الأول: أولوية المجال


إذا أخذنا مجتمعا ما في زمن معين تحت منظومة فكرية معينة، ثم أخذناه في زمن آخر بعد الزمن الأول، فإن الذي يمكن أن يكون هو المنظومة الأصلية وحدها، أو معها منظومة أخرى، أو منظومة أخرى وحدها.
ثم هناك حالتان إما أن المنظومة الأصلية تدعي إمكانية التنظيم للمجتمع، وتأبى بالتالي أن ينافسها غيرها في تأطير المجال التابع لتلك البلاد، أو لا.

إذن لنا الحالات التالية:
إن كانت المنظومة الفكرية الأصلية، تقبل أن ينافسها غيرها، ولعلها لاتملك أدوات لأن تنظم المجتمع (كالمنظومات البدائية)، فان وجود منظومة ثانية صحبتها أو منظومة ثانية لوحدها في الزمن الثاني، لا إشكال فيه.

إن كانت المنظومة الفكرية الأصلية، تملك الأدوات لكي تنظم المجتمع، بل وتملك رؤية شامة لتنظم الكون بأكمله وليس المجتمع فقط (وهي حالتنا مع الإسلام)، فإن وجود منظومة أخرى صحبتها في الزمن الثاني، يطرح إشكالا.

الإشكال متأت من أن تواجد المنظومة الثانية لايمكن إلا أن يكون نوعا من التسلط، وتفسيره كالآتي:
التنافس على مجال واحد (تونس مثلا) من خلال منظومتين متوازيتين (المنظومة الغربية والمنظومة الإسلامية)، وحين يستتبع ذلك التنافس بالاستحواذ على مجال جزئي (مثلا منظومة السلوكيات او القوانين التي ابتعدت عن الإسلام)، فذلك يكون بطريقتين:

إما أن إحداهما تأخذ والأخرى تقبل، وإما لا.
أما الاحتمال الأول، فهو محال باعتبار أننا نتحدث عن منظومتين تملكان أدوات التنظيم الشامل للمجتمع، بزعمهما (لا يهمنا هنا صحة الزعم، ولكن يهمنا ماتقدم به المنظومة نفسها)

بقي إذن الاحتمال الثاني، وهو إن إحدى المنظومتين تأخذ والأخرى ترفض ذلك الأخذ من مجالها، وليس من معنى للتسلط إلا هذا، وهو أخذ الغير من مجال خاص مستصحب برفض صاحب ذلك المجال، مع عجزه عن الدفع.

فثبت بالتالي أن تواجد منظومة فكرية بتونس مخالفة ومغالبة للإسلام، في زمن بعد الاستقلال بنصف قرن، هو دليل تسلط تلك المنظومة على التونسيين، وهي المنظومة الفكرية الثقافية الفرنسية تحديدا.

ولما كانت هذه المنظومة هي تسلطية، فإن القائمين بعملية التسلط من التونسيين (دعاة التبعية هؤلاء) ينظر في الحكم عليهم، لعامل التبني لمحتوى المنظومة المتسلطة، إن كانوا متبنين لها ومدافعين عنها، فهم متسلطون محاربون لقيم البلاد و إلا فلا، إذ قد يكونوا من المغرر بهم.

ولما كان المعنيون بموضوعنا، مسيرو المظاهرات بتونس وسوسة، المطالبون باللائكية والحداثة، المنادون باستبعاد الإسلام من التأثير على المجتمع، واع اغلبهم بما يقومون به، فإنه يجب اعتبارهم محاربون لثقافة التونسيين، يجب ضدهم ما يجب ضد كل محارب للبلاد، كما أن الذين يدعون إليه من منظومات فكرية، هو فكر المتسلطين علينا والمستعمرين لنا، لا يجب نحوه إلا الرفض.

المنهج الثاني: الطريقة العقلية


توجد ثلاث طرق عقلية لبيان فساد محاولات إحلال العلمانية و اللائكية والحداثة، بتونس:

أولا: فإن اعتبار أمر ما غير متفق عليه مقياسا، كلام فاسد، بمعنى أن المطالبة باعتبار القيم الغربية وهي أمر غير متفق عليه ومرفوض لدى غالبية التونسيين، كمرجع لتنظيم أمور التونسيين، أمر لا يجوز عقلا، وذلك للتالي: التونسيون موضوع التنزيل يفترض أن يكونوا هم المدلول من خلال المنظومة التي تأطرهم وهي الدليل، فالمدلول هو في حاجة للدليل، ولكن في حالتنا مع العلمانية، فان العلمانية تصبح في حاجة للمدلول لكي يؤكد وجودها، بمعنى أن الدليل في حاجة للمدلول، وهذا لا يجوز عقلا.

ثانيا: كما يمكن البرهنة بيسر على فساد هذه الفكرة، من خلال قاعدة المصادرة على المطلوب، وهي التي لا تجوز، حيث أن المطلوب إثباته يعتبر نفسه كحكم ومرجع، إذ يقع الانطلاق من العلمانية لدى هؤلاء كحكم على الأشياء، في حين أن هي ذاتها محل نزاع وهذا لا يجوز.

ثالثا: الطريقة الثالثة للبرهنة على فساد محاولات المناداة بالعلمانية و اللائكية والحداثة بتونس، تتعلق بقاعدة عدم جواز الترجيح من دون مرجح، بمعنى إذا أخذنا مجتمعا ما، ليكن تونس، وكانت هناك فكرتان –وليس منظومتان لأن المنظومتان المتوازيتان لايمكن البتة ترجيح احداهما على الأخرى أبدا من الخارج-، فإن احتمال أن يقع تطبيق إحداهما دون الأخرى متساو، مادام لم يوجد مرجح شرعي –يمتلك الشرعية- ينبع من تلك المنظومة.
بمعنى أن تأتي من الداخل جماعة لزرع العلمانية – من داخل المنظومة التي يقرها التونسيون، وبافتراض صحة قول من يقول بوجود علمانية جزئية لاتحارب الإسلام بزعمهم- فان محاولتها تلك في المطلق، ليست بأولى من المحاولة الصادة لها، ولايجب المرور لتنفيذ المحاولة إلا بوجود مرجح.

ولما كان المرجح في جانب صاحب المنظومة، بحيث تكون الشرعية هي المرجح، فإن ذلك يمنع آليا فكرة العلمانية من أن تنتقل للتنفيذ، ولو نفذت مخططاتها فإن ذلك يعني إعادة نظر في المنظومة ذاتها من حيث أنه أعيد صياغتها بحيث تتبدل قواعدها، ومنها قواعد الترجيح.

الخلاصة


- دعاة إحلال العلمانية واللائكية والحداثة بتونس، هم ضحايا في مستويات متقدمة، لحقبة الاقتلاع الثقافي التي مرت بتونس منذ الاستقلال.
- دعوات إحلال العلمانية واللائكية والحداثة بتونس، هي عمليات مغالبة للثقافة العربية الإسلامية، وهي بهذا المعنى تعديات على تونس وعلى التونسيين.
- دعوات إحلال العلمانية واللائكية والحداثة بتونس هي مطالب فاسدة منطقيا، وبالتالي فلايوجد أي مبرر موضوعي لمواصلة التعامل مع هذه المطالب على أنها ذات قيمة.



فوزي مسعود    من كتـــــّاب موقع بوّابــتي 

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...