إلى مكة و الشوق بلا نهاية


لئن تلذذ المُفَرِّطون بالمعصية، ونشطوا للرقص والطرب، فتجد أحدهم في حركة دؤوبة يصل ليله بنهاره لا يكلُّ ولايملُّ، فإن قلوب المحبين لرب العالمين، تجد الأنس واللذة في الطاعة، وتستعذب المشقة العارضة أثناء العبادة.
بل ليس أثر تلك المشاعر ومكانة ذلك النسك مما اختصت به نفوس أهل الصلاح والطاعة، بل هو معنى تشهده في أحوال العامة، فكم رأيت نفساً عند بيت الله المعظم ربما تلبس صاحبها بشيء محرم، تشق طريقها بعد رحلة مضنية بعزم يحدوه الشوق نحو الكعبة المشرفة، يركب أحدُهم قَحمة الطريق، ويصابر اللأواء والضيق، شوقاً إلى البيت العتيق، فإذا رأى البيت نَسِي بُعدَ الشُقَّةِ وما لقيه من عَنَتٍ ومشقة، واستقل ما يستقبله، بل ربما فاضت دمعته، وظهرت عبرته، وشهدت فعاله وكلماته على استجابة الله لخليله دعوته: (فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم)، قال ابن كثير: "فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يَحِنُّ إلى رؤية الكعبة والطواف، فالناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار"، ويتوقون إلى أداء المناسك على اختلاف أصقاعهم وأمصارهم، فمن قائل:
تذكرت أيام الحجـيج فأَسْـبَلَتْ جُـفُوني دماءً واستـجد بِيَ الوجدُ
وأيامنا بالمشْـعَرَيْنِ التي مضـتْ وبالخَيْفِ إذ حادي الرِّكابِ بنا يحدو
فهذا يقول وذاك يخمس قول الآخر:
سَقا اللَه أَيام الحجـيج عَلى مِـنىً مُناها ومن لـي لو يَعـود نَظِـيرُها
وَلِلَّه لَيلات الصـفا دام ذِكرُهـا وَحـقٌ عَلى حجاج مَكَّة شُـكرُها
وَتِلكَ لَـيالٍ لا يُقَـدَّرُ قَـدرُهـا فَلَو شُريت لَم يَغلُ في السوقِ سِعْرُها
وَلَو بيع بالعمرِ الطَـويل قصـيرُها
ومن تشطير غيره قوله:
حَلـَّوا مواردَ عنها يُحمدُ الصَّـدْرُ تَرحَّـلَوا وأقـامتْ عنديَ الفِـكَرُ
وأيُّ قلبٍ على التفريـق يصطبـرُ زاروا وطافوا وحجوا اليبت واعتمروا
هـذا وربـي فخرٌ مـا له دركُ
إلى آخر ما قال.
وأحسن غيره إذ قال:
أَيُـتـركُ ربعٌ للرسالةِ سبْسَبُ تـَجِيءُ به هُوجُ الرياحِ وتذهبُ
ولا تَنْهَمي فيه العيونُ وتَسْكُبُ وتـُظْلَعُ أعناقُ الذنوبِ وتُنْهَبُ
ومن المشهور قول البرعي اليماني في قصيدته التي منها:
يا راحـلينَ إلى مِنىً بغـيابي هيجـتُـمُ يومَ الرحيل فؤادي
حرمتمُ جفني الـمنام لبعدكم يا سالكين الـمنحنى والـوادي
فإذا وصلتم سالـمين فبلـغوا منّي السلامَ أُهـيل ذاك الوادي
وتذكروا عند الطـواف مُتَيَّماً صـبّاً فَنِي بالشـوق و الإبعاد
لي من ربا أطلالِ مكّةَ مـرغبٌ فعسى الإلهُ يـجودُ لي بمرادي
ويلوحُ لي ما بـين زمزم والصفا عند المقام سمعت صوت مـنادي
ويقول لي يـا نائماً جُدَّ السُرى عرفاتُ تـجلو كلَّ قلبٍ صادي
تاللَه مـا أحلى المبيتَ على مني في يوم عـيدٍ أشرفِ الأعـيادِ
إلى آخر ما قال، ومما ذاع قول الزمخشري قبيل رحلة الحج والمجاوره:
قامت لتمنعني المسيرَ تُماضر أنَّى لها وغِـرَارُ عزميَ باترُ؟
شامَت عَقِيْقَة عزمتي فحنينها رَعْدٌ وعيناها السحابُ الماطرُ]
حِنِّي رويدك لن يـَرِقَّ لظبيةٍ وبُـغامها ليثُ العرينِ الزائرُ
لو أشبهت عَبَراتُ عينِّك لُجَّةً وتَعَرَّضَـت دوني فإني عابر
سيري تماضر حيث شئـت وحدثي إني إلى بطحـاءِ مكةَ سائرُ
حتى أُنيخ وبين أطْمَارِي فتىً للكعبة البيتِ الحرامِ مجـاورُ
يا من يسافرُ في البلادِ مُنَقِّباً إني إلى الـبلدِ الحرامِ مسافرُ
سأروح بين وفود مكة وافداً حتى إذا صدروا فما أنا صادر
إلى آخر ذكره المناسك والمشاعر.
وتأمل حال أحدهم وقد عاش في أواخر القرن الثالث وأوائل الرابع، قال يصف أحوالهم ويعملاتهم أثناء رحلة حج مضنية:
أَخفافُهُنَّ مِـن حَفاً وَمِن وَجى مَرثـومَةٌ تَخضبُ مُبيَضَّ الحَصى
يَحمِلنَ كُلَّ شاحِبٍ مُحقَوقفٍ مِن طـولِ تدآبِ الغُدُوِّ وَالسُرى
بَرٍّ بَرى طولُ الطَّـوى جُثمانَهُ فَهوَ كَقِدحِ النَّبعِ مَحـنِيُّ القَـرا
بعدت عليهم الشقة، وتجشموا المشقة فجاءوا من كل فج عميق، قل لي بربك من أجل ماذا؟ قال:
يَنوي الـتي فَضَّلَها ربُّ العُلى لَمّا دَحَـا تُربَتَـها عَلـى البنى
قصد شريفٌ استقلوا فيه ما صنعوا، فجاشت نفوسهم بمشاعرها، وفاضت عيونهم بمدامعها:
حَـتّى إِذا قابَلَها استَعبَـرَ لا يَملِكُ دَمعَ العَينِ مِن حَيثُ جَرى
ولعلك تعجب إن علمت أن قائلَ هذه الأبيات، الواصفَ لتلك المشاعر والأحاسيس ليس من أفراد الزُّهاد، بل لايعد في العُبَّاد، بل هو رجل موصوف بالإسراف والتقصير!
ومن الذائع الشهير قول شاعر الغزل عمر بن أبي ربيعة:
بالله قـولي لـه في غـيرِ مَعْتَـبَةٍ ماذا أردت بطولِ المُكْثِ في اليمنِ؟
إن كنتَ حاولتَ دنيا أو ظَفِرْتَ بها فما أخـذتَ بتركِ الحَجِّ من ثمنِ!
وهذا وإن جاء في صدد النسيب فإن مضمونه يشعر بمكانة البيت العتيق عند العامة.
ولهذا يُقال أن ابن جريج قال: ما ظننت أن الله عز وجل ينفع أحداً بشعر عمرَ بنِ أبي ربيعة، حتى سمعت وأنا باليمن منشداً ينشد قولَه: وذكر البيتين المتقدمين، قال: فحركني ذلك على الرجوع إلى مكة، فخرجت مع الحاج وحججت.
بل تأمل قول أحدهم وهو موصوف بفسق يجاهر فيقول:
إذا صَلَّيتُ خمساً كلَّ يـومٍ فإن الله يغفر لـي فسوقـي
ولم أشرك برب الناس شيئاً فقد أمسكت بالدّين الوثـيق
وجاهدت العدو ونلت مالاً يُبَلِّغُـني إلا البيـت العتيـقِ
فهذا الدين ليس به خفـاءٌ دَعُونِـي من بُنَيَّات الطريقِ
فانظر إلى هذا مع حاله، يرى الجهاد لأجل تحصيل ما يبلغه البيتَ العتيقَ دينُ حقٍ عليه.
وإذا علمت هذا عرفت لم طويت عن القوم المشقة، وإذا كانت هذه حال من ذكرنا من المقَصِّرِين، فكيف بحال أهل الإيمان واليقين، فلا عجب أن قَلَّت المسائل التي توسع فيها وترخص من نبتوا في دبر الأيام من متفقهة هذا الزمان بدعوى التيسير وِفْقَاً للمشقة النازلة في هذا العصر القاسي بزعمهم!

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...