يا دعاة الحرية .. هل تعرفون معنى الحرية ؟


لقد كفل الإسلام للإنسان – في إطار حرصه على استقراره النفسي – كثيراً من أنواع الحريات ، وفي مقدمتها حرية الاعتقاد ، وحرية الفكر والتعبير ، وحرية التصرف .. إلخ (1) ، شريطة ألا تؤخذ هذه الحرية سبيلاً إلى الإخلال بتماسك المجتمع أو النيل من مقدساته دينياً وخلقياً وسلوكياً .
فالحرية الحقيقية في نظر الإسلام " هي الحرية المنضبطة بضوابط أخلاقية تعصم صاحبها من التردي ، وتمنعه من الإضرار بحقوق الآخرين " (2) .
وعندما تحترم حدود الحرية يعيش الجميع آمنين على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ، وإذا لم يلتزم الفرد من داخله بضوابط الحرية ألزم بها إلزاماً ، حتى لا يورد نفسه وغيره موارد التهلكة ، " وإلا هلك العاصي بالمعصية والساكت بالرضا " (3) .
فليس في قاموس الحياة السلوكية للمسلم شيء اسمه ( الحرية المطلقة ) ؛ إذ أنه لا يعيش وحده في هذا الكون ، وإنما يعيش معه آخرون ، لهم مثل ماله من الحقوق ، وعليهم مثل ما عليه من الواجبات .
وقد حدد الحديث الشريف هذا المفهوم تحديداً لا يتطرق إليه خلل ، ولا يحتمل الشك ولا التأويل ، فعن النعمان بن بشير – رضي الله عنهما – عن النبي –e– قال : ( مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة فأصاب بعضهم أعلاها وبعضهم أسفلها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مروا على من فوقهم ، فقالوا : لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقاً ولم يؤذ من فوقنا ، فإن يتركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعاً ) (4) .
" إن هؤلاء الذين صاروا في أسفل السفينة يريدون أن يمارسوا حريتهم في ملكهم حيث يخرقون خرقاً في مكان يتمكنون من الاستقاء منه دون أن يؤذوا غيرهم ، ونلاحظ أنهم فوق كونهم يريدون أن يخرقوا هذا الخرق في سهمهم لا يريدون أن يؤذوا غيرهم ، فحسن النية متوفر لديهم .
ولكن ممارسة هذه الحرية – مع توفر الدوافع وحسن النية – فيها إضرار حتمي بمن يمارسونها وبغيرهم من شركائهم ، بل وبكل من على ظهر السفينة ، لأن السفينة تكون معرضة للغرق متى خرقت ، فهل يستسيغ عاقل أن يترك هؤلاء وشأنهم يفعلون ما يشاءون ما دام ذلك في سهمهم ؟ " (5)
هذا الفهم للحرية هو ما يرفضه الإسلام ، وهو ما يرفضه كل عاقل على ظهر الأرض ولكنه ومع الأسف هو الذي يريده الذين فهموا الحرية مطلقة من كل قيد ، مجردة من الأخلاق ، ناظرين ومقلدين لمجتمعات أطلقت للحرية عنانها كرد فعل ثائر على نظام اجتماعي قائم على الظلم والحيف ، وأغلال صنعها رجال كهنوت ، باسم الدين يحلون ويحرمون ويصادرون حريات الناس في أبسط الحقوق حتى استقر في نفوس الناس أن الدين سجن الحرية أو عدو الحرية .
ومن هنا " راج بين الناس نظرية متطرفة في الحرية الشخصية ترمي إلى إعطاء الفرد الحرية التامة ، والإباحية المطلقة بإزاء المجتمع ، فأصبحوا ينادون بأنه يجب أن يكون للفرد الحق المطلق في عمل ما يشاء ، والحرية الكاملة في ترك ما يشاء ، وليس للمجتمع أن ينتزع منه الحرية الشخصية ، وأما الحكومة فواجبها أن تحافظ على هذه الحرية التي يتمتع بها الفرد في تصرفاته ، وأما المؤسسات الاجتماعية فينبغي ألا تكون غايتها سوى إعانة الفرد على تحقيق مقاصده " (6) .
وقد أصبح في بلاد المسلمين كثير من المفتونين بطريقة الحياة الغربية ، الذين يتشدقون وينادون بالحرية الشخصية التي لا حدود لها ، مدعين أن الدين يقيد حريتهم ، متناسين أو جاهلين بالمساحة الواسعة التي أطلق الإسلام فيها حرية الإنسان ، حتى برز جيل من شباب المسلمين يضع تعبير (الحرية الشخصية) على طرف لسانه ، ويطلقه كمبرر لكل ما تمليه عليه أهواؤه من أقوال وأفعال .
إن أمثال هؤلاء قد ركزوا على جزء من واقع الحياة الغربية (الحرية المطلقة) ، وهو الجزء الذي يتفق مع أهوائهم وميولهم ، ولكنهم أعرضوا صفحاً عن الجزء الآخر الذي ترتب على هذه الحرية في بلاد الغرب ، وهو انتشار الجريمة وترويع الآمنين ، وتصدع أركان المجتمع ، إن هذا لشيء عجاب !!
فمن أراد الإنصاف فليتجرد من هواه ، وليأخذ الحقيقة كاملة بمقدماتها ونتائجها ثم يصدر الأحكام بعد ذلك .
وهناك حقيقة يجب تقريرها هنا رداً على الذين يقولون : " إن الدين يقيد حرية الإنسان ، ويمنعه بعض اللذات التي يقدر على التمتع بها ، ويحزنه الحرمان منها ، فكيف يكون هو المأمن من الأحزان ، ويكون باتباعه الفوز وبتركه الخسران ؟
هذه الحقيقة هي أن الدين لا يمنع من لذة إلا إذا كان في إصابتها ضرر على مصيبها أو على أحد إخوانه من أبناء جنسه الذين يفوته من منافع تعاونهم – إذا آذاهم – أكثر مما يناله بالتلذذ بإيذائهم ، ولو تمثلت لمستحل اللذة المحرمة مضارها التي تعقبها في نفسه وفي الناس ، وتصور مالها من التأثير في فساد العمران لو كانت عامة ، وكان صحيح العقل معتدل الفطرة لرجع عنها متمثلاً بقول القائل : لا خير في لذة من بعدها كدر .
فكيف إذا كان مع ذلك يؤمن باليوم الآخر ويعلم أن هذه المحرمات تدنس الروح فلا تكون أهلاً لدار الكرامة في يوم القيامة ؟!
وليست سعادة الإنسان في حرية البهائم ، بل في الحرية التي تكون في دائرة الشرع ومحيطه ، فمن اتبع هداية الله فلا شك أنه يتمتع تمتعاً حسناً " (7) .
ولله در من قال :
تفنى اللـذاذة ممـن نال لذتها ** من الحرام ويبقى الإثم والعارُ
تبقى عواقب سوء من مغبتها ** لا خيرَ في لذة من بعدها النارُ
والمؤمن – بوازع الإيمان – يحترم حدود الحرية ، فلا يَعتدي ، وبالتالي لا يُعتدى عليه ، فيشعر الجميع بالأمن والسكينة ، وتتجه الطاقات إلى الإنتاج بدلاً من الانشغال برد العدوان الذي يحمل شعار الحرية المطلقة .

د / محمد هلال الصادق هلال
أستاذ الدعوة والثقافة الإسلامية المساعد بجامعة الأزهر وجامعة الملك سعود

المراجع :
(1) للوقوف تفصيلاً على كفالة الإسلام لهذه الحريات راجع :
- حقوق الإنسان في الإسلام ، د/ علي عبد الواحد وافي .
- حقوق الإنسان في الإسلام ، د / أمير عبد العزيز صـ 129 وما بعدها ، دار السلام ، القاهرة ، ط الأولى 1417هـ - 1997 م .
- الثقافة الإسلامية ، د / عبد الواحد الفار ، صـ 133 وما بعدها .
(2) انظر : قواعد البناء في المجتمع الإسلامي ، د / محمد السيد الوكيل صـ 66 بتصرف ، دار الوفاء ، المنصورة ، ط الأولى 1407 هـ – 1986 م .
(3) فتح الباري 5/370 .
(4) أخرجه البخاري في صحيحه في كتاب (الشركة) باب (هل يقرع في القسمة ؟ والاستهام فيه) حديث رقم (2493) .
(5) قواعد البناء في المجتمع الإسلامي صـ 65 .
(6) الحجاب : أبو الأعلى المودودي ، صـ 57 دار العدالة ، القاهرة .
(7) انظـر : تفسير القرآن الحكيم الشهير بتفسير المنار ، تأليف / محمد رشيد رضا ، 1 / 286 بتصرف ، دار المعرفة ، بيروت ، ط الثانية .

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...