احباط مابعد الثورة


كان ثمة اعتقاد لدى التونسيين الذين قاموا بالثورة أو شاركوا فيها أو أيدوها أن التباطؤ في اتخاذ القرارات المحققة لأهداف الثورة يرجع لنقص الخبرة السياسية لدى الممسكين بزمام الأمور أو أنه نوع من الحذر في الحركة خاصة في ظروف ساخنة كالتي نعيشها بعد الثورة , ولكن شيئا فشيئا بدأ هذا الاعتقاد يتغير كي يظهر احتمال التواطؤ, وبدأ ذلك الاحتمال يقوى شيئا فشيئا مع الوقت حتى تأكد لدى البعض حين وجدوا أن الأمور تتجه إلى وضع الثورة وأهدافها في الثلاجة وبالتوازي مع تلك السياسة يتم ضخ الدماء في النظام القديم وتقوية عناصره وإعادة تنظيم صفوفه بما يشكل خطرا حقيقيا على الثورة. 


وقد أصبح مؤكدا أن السلطة الحالية ليست سلطة ثورية بطبيعتها وتكوينها وأن لقاءها بالثورة جاء صدفة, أو من خلال التقاء مصالح مؤقتة ومن هنا لا نتوقع منها قرارات ثورية أو تغييرات جذرية لا تتفق مع طبيعتها وتوجهاتها ومصالحها, وفي نفس الوقت نجد أن الثوار أخطئوا خطأ فادحا حين لم يتفقوا على قيادة موحدة لهم تمثلهم في منظومة السلطة الانتقالية, لذلك وجدوا أنفسهم خارج نطاق السلطة وخارج اللعبة السياسية, وكلما احتاجوا شيئا لا يجدون غير طريق الضغط عن طريق الشارع أو الاعتصامات او المواقع  الافتراضية , إضافة إلى ما أصابهم من انقسامات تهدد القدرة على الحشد مع توالي الأيام والشهور وتكالب المؤامرات.


وكانت النتيجة هي حالة إحباط أصابت الثوار ومن شاركهم أو أيدهم في الثورة, وأيضا حالة إحباط لدى جموع التونسيين  الذين لم يروا إنجازات سريعة للثورة كانوا يتوقعونها, ليس هذا فقط بل رأوا انفلاتا أمنيا متعمدا ومتآمرا, وصعوبات اقتصادية مبالغا في تصويرها, واضطرابا سياسيا مقصودا, وغموضا في القرارات والبيانات, وتشويشا في المعلومات, وممارسات لا تختلف كثيرا عن ممارسات بن علي ونظام حكمه, ووجوها قديمة مازالت تدير منظومات الحياة في البلاد,ومعارضة تهريجية غير مسؤولة وجادة . إذن فقد قامت الثورة ولم تقم, قامت على مستوى الوعي واليقظة والروح الجديدة التي سرت في الشعب التونسي وأشعرته بقيمته وكرامته وحقوقه, ولم تقم على مستوى الحياة اليومية والممارسات الواقعية, وهذا وضع خطير إذ حينما يرتفع الوعي بالذات وبالحقوق بينما تنخفض الممارسات على أرض الواقع فهذا ينتج حالة كبيرة من الإحباط حيث الهوة واسعة بين التوقعات والطموحات من جانب وبين عطاءات الواقع من جانب آخر, وهذا هو الحادث الآن في الحالة التونسية الراهنة.


والسؤال الآن: ما هي المسارات المحتملة لحالة الإحباط السائدة الآن؟ 
هناك مساران رئيسيان للإحباط: المسار الأول هو الغضب والمسار الثاني هو اليأس والاستسلام. وإذا نظرنا إلى الواقع التونسي نرى المسارين متحققين بنسب مختلفة لدى الطوائف المختلفة, فمثلا هناك حالة من الغضب تتمثل بشكل خاص لدى شباب الثورة والذين يعبرون عن غضبهم حتى الآن في صورة اعتصامات وتظاهرات متكررة وربما احتكاكات مع رموز السلطة الحالية ومسار الغضب يبدو أكثر وضوحا وهو ينذر بتصاعد هذا الغضب وحدوث موجات ثورية أخرى قد لا تكون سلمية, إذ أنها تحمل مشاعر عدائية تجاه من يظنهم الثوار قد التفوا على الثورة أو أجهضوها, أو على الأقل لم يكونوا مخلصين لمبادئها وأهدافها. 


أما المسار الثاني, وهو اليأس والاستسلام فهو موجود لدى فئات من الناس ترى أنه لا فائدة من الثورة, وأنهم كتب عليهم الذلة والمسكنة في عهد بن علي وفيما بعد بن علي, وهم يشعرون أن لا فائدة ترجى في أي شيء, وكل همهم أن يجدوا لقمة عيش تسد رمقهم وأن يشعروا بالأمان الذي افتقدوه. وقوى الثورة المضادة تلعب على هذه الفئات وتحاول أن ترسخ حالة اليأس والقنوط لدى أعداد أكبر من التونسيين على أمل أن يكفروا بالثورة ومبادئها وينقضوا على الثوار ويعتبرونهم مثيري شغب وأنهم قطعوا أرزاقهم وروعوهم بلا فائدة. 

ومن هنا نفهم تآمر بعض عناصر وزارة الداخلية في تقاعسهم المتعمد عن أداء دورهم, وفي تشجيعهم بشكل مباشر أو غير مباشر لظاهرة تفشي العنف ولنشرهم حالة الانفلات الأمني المرعبة للناس, وكلها تصب في مسار اليأس والاستسلام الذي يهيئ الأجواء لمحو آثار الثورة وعودة النظام القديم (أو بالأصح استمراره) مع بعض الإصلاحات الجزئية البسيطة والتغييرات في الأسماء.


والنتيجة النهائية تتوقف على غلبة أحد المسارات على الآخر, وعلى نجاح أحد الطرفين مقابل الطرف الآخر, ولهذا فإن الصراع الثوري مازال مستمرا, ومازال أمام الثوار مهمة كبيرة في إحياء الأمل في نفوس الناس, وتحويل طاقة الغضب الناتجة عن الإحباط إلى مسارات بناءة تظهر ثمارها في حياة الناس اليومية وأن ينتزعوا الناس من دوامة اليأس التي يسعى المناهضون للثورة إلى إغراقهم فيها.

1 commentaires:

انا عمر أحمد صاحب مدونة " أبدأ بنفسك" " Right way "
Rahmaah.blogspot.com
بعد الاطلاع على مدونتك الجميلة والرقيقة جدا والمتقاربة لمدونتى .
أنا اعرض على حضرتك التعاون معا فى نفس المجال وتوحيد الفكر وزيادة قيمة
المدونة معا. والتواصل من خلال ربط المدونتين معا
شكرا على وقتك

 

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...