مظاهر سيطرة انظمة الحكم العلمانية على الخطاب الديني



مثَّل الدين تحديًا أمام نظام الحكم القائم على الدولة القومية العلمانية القطرية، فالدين يمثِّل العامل الرئيسي في المجتمعات العربية والإسلامية، والقادر على التأثير على عموم الجماهير، كما أنه يمثِّل المرجعية العليا للأمة، والذي تستمد منه هويتها الحضارية؛ لذا ظل الدين عاملاً فاعلاً في المجتمعات، ومؤثرًا على توجهات الرأي العام، فواجهت سلطات الحكم تأثير الدين، بمحاولة السيطرة عليه، ولم تكن قادرة أو راغبة في أي وقت في معاداة الدين صراحة؛ فلم يكن متاحًا أمام سلطات الحكم القيام بأي عمل يعادي الدين، أو يحاول نزع الدين من المجتمع؛ فتلك العملية تمثل مخاطرة كبرى على السلطات الحاكمة، كافية للقضاء على حكمها
؛ لذا لم يكن هناك مفر من السيطرة على المجال الديني؛ حتى لا يسحب شرعية الحكم، وحتى لا يصبح سندًا لإدانة الحكم القائم.
ولم يغب عن سلطات الحكم أهمية استخدام الدين كأداة من أدوات الدولة، فرغم أنها دولة علمانية الأساس إلا أنها كانت تحتاج للدين في العديد من المواقف الحرجة، كما كانت تحتاج لاستخدام الدين كعنصر في هويتها، حتى لا تبدو معادية للدين، ولا تبدو خارجة بالكامل عن المجتمع، ولكن السلطات الحاكمة لم تتجاوز ذلك للاعتراف بالمرجعية العليا للدين؛ لأن ذلك الاعتراف يغير طبيعتها العلمانية، كما يغير هويتها القومية القطرية، والتي تقوم على القومية الخالصة، المرتبطة بحدود جغرافية.
وظلت عملية السيطرة على المجال الديني من أكبر التحديات التي تواجه السلطة العلمانية في البلاد العربية والإسلامية، فالمجال الديني خاضع لقواعد الدين، وخاضع لمرجعية الدين، لذا كانت السيطرة على المجال الديني تمثل تحديًا لنفوذ السلطة الحاكمة، وقدرتها على السيطرة على المجتمع؛ فمن خلال الخطاب الديني والمرجعية الدينية يكتسب المجتمع هويته المستقلة ويعيد إنتاجها ويستعيدها رغمًا عن توجهات الدولة؛ لذا أصبح اختراق الخطاب الديني وحصاره في الوقت نفسه، هو السياسة المتبعة من قبل السلطات الحاكمة، حتى تستطيع تحييد دور الدين في المجال العام والمجال السياسي، ما دامت لا تستطيع تحييد دور الدين في المجتمع، وفي حياة الأفراد.
من هنا تبلورت سياسات الحكم العلماني في جعل المجال الديني تحت سيطرة الدولة، ومنع تأثير الفكرة الدينية على المجال السياسي، وأيضًا منع تأثير الهوية الدينية على الهوية القومية العلمانية للدولة؛ ولكن تلك العملية ظلت تراوح مكانها، ولا تحقق النتائج المرجوة منها؛ فظل الدين هو الملاذ الآمن للهوية العربية والإسلامية، وهو مصدر المعارضة السياسية والاجتماعية الحقيقية للنظام السياسي القائم، وظل الدين هو مصدر حالة الإحياء والحراك، ومنه خرج تيار الصحوة الإسلامية، وتعددت مراحله وتياراته الفرعية، وظل يمثل التحدي الرئيسي أمام سلطة الدولة القومية العلمانية.
وبدأت مرحلة اختراق الخطاب الديني، واختراق المجال الديني بصورة مكثفة منذ منتصف تسعينيات القرن العشرين؛ حيث عمدت السلطات الحاكمة في العديد من البلاد العربية والإسلامية إلى اختراق الخطاب الديني السائد، ومحاولة الهيمنة عليه من داخله، والعبث في بنيته، حتى تستطيع السيطرة على تيار المعارضة الإسلامية، والذي ما زال يكتسب أرضًا جديدة كل يوم؛ ما جعله يمثل التحدي الأول أمام السلطة الحاكمة، وبهذا بدأت مرحلة إنتاج الخطاب الديني الجديد، الذي لا يمثل تحديًا للسلطة الحاكمة، ولا لنفوذ الدولة القومية العلمانية، خطاب يُراد منه أن يكون داعمًا لعلمانية السياسة والدولة، حتى يصبح خطابًا يحمي بقاء الطبقة الحاكمة في الحكم، كما يُراد من هذا الخطاب الجديد أن يكن حاميًا أو على الأقل غير معارض لمجمل الأوضاع القائمة، بما فيها الهيمنة الغربية، وسيادة العولمة العلمانية، وهيمنة الاحتلال الصهيوني على أرض فلسطين، وأيضًا على المنطقة العربية والإسلامية.
دين بلا سياسة
فيما سمي بتجديد الخطاب الديني، نجد محاولة مستمرة لفصل الدين عن السياسة، تحت عدة ذرائع، منها: أن الدين مقدس والسياسة نسبية، وكأن المطلوب هو الحفاظ على الدين المقدس بعيدًا عن حياة الناس، وبعيدًا عن السياسة، حتى يتم الحفاظ عليه بعيدًا عن الاجتهاد البشري النسبي، وبهذا يبقى الدين مقدسًا، ولكن بلا دور، وفي نفس الوقت يتم الحفاظ على السياسة وهي اجتهاد بشري، بعيدًا عن الدين، فتظل متحررة من الدين ومن قيمه وقواعده، وتصبح سياسة بلا قيمة تحكمها إلا القيمة العلمانية المادية؛ فلا توجد سياسة بلا قيمة، وعندما يتم نزع القيمة الدينية عن السياسة، تحل محلها قيم أخرى وهي القيم العلمانية الغربية؛ وبهذا يتم إلحاق السياسة بالمنظومة السياسية الغربية.
ورغم أن الدولة القومية العلمانية تستخدم الدين لحماية قيم غريبة عنه، ونظام خارج عليه، إلا أن الخطاب الديني الجديد يحاول تصوير الحركة السياسية الإسلامية بأنها تستخدم الدين، وتستغل الدين للوصول للسلطة، وهنا يتم خلط المصطلحات لتشويه الحركة الإسلامية، رغم أن الحركة الإسلامية تجعل الدين حاكمًا أعلى عليها، وتتحرك بمقتضى القيم الدينية، وترفع الدين كمرجعية عليا، وهذا ليس استخدامًا للدين؛ فاستخدام الدين يتحقق عندما يكون الدين أداة من أدوات العمل السياسي، ولكن عندما يكون الدين هو المرجعية العليا للعمل السياسي، تصبح السياسة في خدمة الدين، بدلاً من أن يكون الدين في خدمة السياسة؛ وهذا هو الفرق بين منطلق الحركة الإسلامية، ومنطلق السلطة الحاكمة؛ فالسلطة الحاكمة تجعل الدين في خدمة السياسة العلمانية، والحركة الإسلامية تجعل السياسة في خدمة الدين، فتصبح سياسة إسلامية.
وتتمدد تلك الحملة على الدين لتصل إلى تشويه كل رؤية سياسية تستند للمرجعية الدينية، فكل حركة سياسية إسلامية، تعتبر حركة متشددة ومتطرفة وإرهابية، وخارجة عن العصر ورجعية، وغيرها من التهم؛ والمقصود من ذلك تشويه التطبيق السياسي للدين، وهو أمر لا يمس الحركات الإسلامية فقط، بل يمس الدين نفسه، وكأن كل تطبيق للدين في المجال السياسي لن ينتج عنه إلا رؤية متطرفة تحيل حياة الناس إلى جحيم، وبالطبع لا يُقال إن المشكلة في الدين، بل يُقال إن المشكلة في الذين يطبقون الدين، وتصل التحليلات العلمانية إلى خلاصة، مفادها أنه لا يمكن تطبيق الدين، فهو مقدس، والبشر غير قادرين على تطبيقه دون تشويهه؛ لذا يصبح الأفضل عدم تطبيقه، حتى يظل مقدسًا، وتلك بالطبع مقولات فاسدة، فمعناها أن الدين مقدس وخير، ولكن لا يمكن تطبيقه في الحياة، فالدين الذي لا يمكن تطبيقه في السياسة، سوف يصبح غير قابل للتطبيق في الاقتصاد أيضًا، وبهذا يصبح الدين حالة روحية وتعبدية غير قابلة للتطبيق، بما يسمح بتحرير حياة الناس، وتحرير السياسة من الدين، ونصل في النهاية إلى تنحية الدين عن الحياة العامة، وبهذا تتحقق العلمانية.
فالنظرية العلمانية في الغرب قامت على مقولة إن الدين يعرقل التقدم ويعرقل بناء النظام السياسي؛ لذا تمَّ تنحية الدين، حتى يتم بناء النظام المتقدم، والعلمانية ترى أن العقل البشري هو فقط مصدر الحق والحقيقة، وهو القادر على تحديد مصلحة المجتمع، فيتم الاحتكام للعقل البشري الوضعي، بدلاً من الاحتكام للدين كمصدر للحق والقيم العليا، وهكذا يتم تحويل الخطاب الديني إلى خطاب يعزل الدين عن الحياة، حتى يتم توسيع مساحة الحركة والفعل للرؤية العلمانية، بما يجعل الخطاب الديني الجديد خطابًا لتنحية الدين وتأسيس العلمانية.
وتبقى عملية تشويه الحركة الإسلامية، بوصفها العملية المكملة للخطاب الديني غير السياسي، حتى يستقر في وعي الناس أن الحركة الإسلامية تشوه الدين، وكل من يحاول تطبيق الدين يشوهه؛ لذا يصبح الأفضل عدم تطبيق الدين في المجال العام، ويكفي أن يطبق الفرد الدين على نفسه، ونتحول إلى التدين الفردي الروحي، الذي يجعل الدين شأنًا فرديًّا؛ ما يرسخ سيادة العلمانية في المجتمعات العربية والإسلامية.
حماية السلطة من حكم الدين
تحاول السلطة الحاكمة التهرب من حكم الدين على تصرفاتها، فهي تدرك أنها طبقًا لأحكام الدين، تمثل سلطة خارجة على سيادة الدين ومرجعيته، والدولة القومية العلمانية، هي دولة متمردة على أحكام الدين وخارجة عنها، فهي دولة تستبدل المرجعية الدينية بالمرجعية الوضعية التي يضعها العقل البشري الخالص، متحررًا من مرجعية الدين العليا.
والنظم القائمة تمثل خروجًا عن الهوية التاريخية للأمة، ولا تلتزم بما توافقت عليه الأمة من مرجعية وهوية؛ لذا تظل السلطة الحاكمة في حالة خوف من حكم الدين عليها، وحكم الدين يتحقق من خلال إجماع الناس على تقييم تصرفات السلطة الحاكمة وتصرفات الدولة من خلال أحكام الدين، وهو ما يمثل خطرًا كبيرًا على أنظمة الحكم، والتي تحاول الفصل بين تصرفاتها والقواعد الدينية، وتحاول جعل القواعد الدينية قيمًا مطلقة ومقدسة، ولكن غير قابلة للتنفيذ على أرض الواقع، وتفترض السلطة الحاكمة أن تصرفاتها نتيجة الواقع، وأنها تخضع لقواعد الممكن، وأنها تمثل المصلحة العامة للمجتمعات؛ لذا كان من الضروري السيطرة على المؤسسة العلمية الدينية، حتى لا تصبح مصدرًا لإدانة الحكم.
ولم تكن سيطرة النظام الناصري في مصر على مؤسسة الأزهر الشريف، وهي المؤسسة السنية الأولى في العالم الإسلامي، إلا إدراكًا من نظام جمال عبد الناصر لخطورة استقلال المؤسسة العلمية الإسلامية، والتي يمكن أن تدين النظام الحاكم وتكشف خروجه عن مقتضى الشريعة الإسلامية؛ لذا وضعت مؤسسة الأزهر تحت السيطرة الكاملة منذ ذلك الحين، حتى لا يستقل رأي العلماء عن سيطرة الدولة.
وعندما غابت المؤسسة المركزية العلمية القادرة على جمع كلمة العلماء في وجه السلطة، خرجت الاجتهادات الفردية المتعددة، والتي حاولت السلطة زرع الفتن بينها، حتى لا تصبح رأيًا عامًّا، ومن خلال سياسة "فَرِّقْ تَسُدْ" الاستعمارية، يتم توسيع الفجوة بين علماء الدين، في محاول لمنع تحقق حالة الإجماع بين العلماء، والتي يمكن أن تصبح رأيًا جماعيًّا يدين السلطة الحاكمة ويدين علمنة الدولة بل ويدين محاولة علمنة الدين نفسه، تحت شعار الخطاب الديني الجديد.
خطر وحدة الأمة
لا يوجد خطر يهدِّد الدولة القومية العلمانية أكبر من خطر توحد الأمة الإسلامية؛ لأن توحدها العابر للقومية يهدم أسس الدولة القومية، وبالتالي يهدم أسس العلمانية؛ لأن وحدة الأمة تقوم على مرجعيتها الحضارية والدينية، وكلما استعادت الأمة وعيها بوحدتها، أصبحت تهدِّد كيان الدول القائمة، واستعادة الأمة لوعيها بوحدتها، ليس مجرد حالة وعي عاطفي، بل هي حالة تحدد ملامح وجود الأمة، وبالتالي تحدد طبيعة مسار السياسة المعبرة عن الأمة، وتضع الدول القائمة في حرج شديد، يفقدها الشرعية في نهاية الأمر.
فعندما تتحرك الأمة دفاعًا عن مقدساتها ضد أي عدوان يقع عليها، فهي بهذا تدين الدول القائمة التي لا تتحرك دفاعًا عن مقدسات الأمة، كما أن الأمة بذلك تؤكد أن لها مقدسات واحدة ومرجعية واحدة؛ ما يعني أهمية أن يكون لها سياسة واحدة، وهو أمر يتعارض بالكامل مع حالة الدول القائمة، والتي تتبع سياسات متعارضة وربما متصارعة؛ فنحن بصدد دول مفككة، وأمة تستعيد وعيها بوحدتها، وهنا يبرز دور الخطاب الديني، فهذا الخطاب منشئ لوحدة الأمة، وقادر على إعادة وعي الأمة بوحدتها، وانتشار الإحياء الديني، وتيار الصحوة الإسلامية ساهم بشكل بارز في تنمية وعي الأمة بوحدتها، فأصبح مسار الحركة الإسلامية يعضد وحدة الأمة.
ولكن السلطة الحاكمة تريد خطابًا دينيًّا لا يركز على مسألة الهوية؛ حتى لا يركز على مسألة وحدة الأمة، وكلما كان الخطاب الديني خطاب هوية أدَّى ذلك إلى إدانة الهوية القومية القطرية بوصفها خروجًا على الهوية الدينية والحضارية للأمة، فبرزت أهمية نزع الدور التوحيدي للخطاب الديني، وهو أمر يتعارض مع جوهر هذا الخطاب، ويمس أحد أهم أسسه، أي وحدة الأمة، وظهر العديد من الكتابات التي تشكك في وجود الأمة أصلاً، وتحاول ربط وحدة الأمة بمرحلة تاريخية، وتشويه معظم تاريخ الأمة، ودخلنا في معارك تستخدم التاريخ، حتى تشوه فكرة وحدة الأمة؛ ولكن السيطرة على الخطاب الديني ظلت العامل الأهم، حتى لا يخرج الخطاب الديني داعيًا الأمة للوحدة في مواجهة الأعداء، فإذا توحَّدت الأمة، فسوف تتوحد في مواجهة النظام القومي العلماني، وسوف تتوحد أيضًا في وجه السلطة الحاكمة الخارجة عن مرجعية الأمة.
الجهاد المشكلة الأكبر
مع تنامي الحركة الإسلامية الجهادية في مواجهة كل أشكال الاستعمار العسكري، خاصة في فلسطين المحتلة؛ ظهر تحدٍ جديد أمام الدولة القومية القطرية، فالحركة الجهادية تواجه الاحتلال الصهيوني باسم الأمة كلها، ودفاع عن الأمة الإسلامية، ومن أجل تحقيق حريتها واستقلال كامل أراضيها. وبهذا تمثل الحركة الجهادية حالة توحد الأمة أمام العدو، وتتجاوز القطرية القومية، لتبني وحدة الأمة المجاهدة أمام العدو.
والحركة الإسلامية الجهادية تمثل تحديًا كبيرًا لواقع السياسة في الدول العربية والإسلامية، فهي تتحدى أولاً حالة الاستسلام التي تعيشها دول المنطقة للاستعمار الصهيوني، وتدين حالة العجز التي تعيشها الأنظمة الحاكمة، كما تؤكد أن تلك الأنظمة لم تعد تدافع عن ثوابت الأمة، بل تواطأت مع العدو، كما تمثل الحركة الجهادية تحديًا للنزعة القومية باعتبارها المسئولة عن تفكيك الأمة وإضعافها. وتمثل أيضًا الحركة الجهادية تحديًا آخر؛ حيث إنها تدين العلمنة بكل أشكالها، والتي أخرجت الأمة من هويتها، فأضعفتها وجعلتها تنهزم أمام العدوان الخارجي.
وتلك هي إشكالية الدولة القومية العلمانية؛ لأنها قدمت إلى الأمة التفكك والهزيمة، والسقوط الكبير تحت هيمنة القوى المعادية. فهي إذن، مشروع لم يحقِّق للأمة التقدم أو النماء، ولم يحقق لها الاستقلال ولا الوحدة، ولم يحقق لها التحرر أو الكرامة، وأكثر من هذا، لم تحقق الدولة القومية القطرية العلمانية الكرامة الوطنية، بل فككت أوطان الأمة، ثم تركت كل وطن نهبًا للهيمنة الخارجية؛ ما أفقد الأوطان كرامتها الوطنية.
لذا تم نزع القيمة الجهادية والواجب الجهادي من الخطاب الديني الجديد، حتى لا يصبح الجهاد سبيلاً لوحدة الأمة واستعادة هويتها.
تدين يقبل التغريب
كل محاولات تغيير الخطاب الديني تقوم في الجانب الأهم منها على قبول القيم الغربية في مختلف المجالات، تحت دعوى تحديث الخطاب الديني؛ فالمطلوب هو قبول القيم الغربية، باعتبارها تمثل الحداثة، وحتى يصبح الخطاب الديني قابلاً للتحديث، ويتم هذا بشكل منهجي في مختلف المجالات؛ حيث تصدر السلطة الحاكمة والنخب المتحالفة معها خطابًا دينيًّا يبدو غريبًا في مرجعيته، وكأننا نستبدل المرجعية الإسلامية الدينية والحضارية بالمرجعية الغربية حتى يتم إنتاج خطاب إسلامي يدعو في النهاية إلى العلمنة الغربية.
وتلك تمثل مرحلة من مراحل التعدي السافر على الخطاب الديني، حيث إنها تتجاوز المجال السياسي والقضايا السياسية إلى الجانب الاجتماعي، فهوية الأمة الحضارية والدينية تعيد إنتاج نفسها في المجال الاجتماعي وداخل الأسرة، بصورة تمكِّنها من الاستمرار رغم كل الضغوط الخارجية؛ ما يساعد الأمة على التعبير عن نفسها في صورة تيار الصحوة الإسلامية، بمختلف فصائله؛ لذا أصبحت محاولات العلمنة تتجه إلى الجانب الاجتماعي في الدين، حتى تمنع فرص قيام الخطاب الديني الأصيل مرة أخرى، وتتجه السلطة والدولة معها، إلى علمنة القاعدة الاجتماعية في الخطاب الديني، حتى لا يتمكن المجتمع من إنتاج هويته الحضارية والدينية مرة أخرى، وبهذا يفقد المجتمع قدرته على مواجهة التغريب، فيصبح قابلاً للسيطرة من قِبل الدولة القومية العلمانية، وخاضعًا للفكرة الوافدة، وغير قادر على مقاومة التغريب أو السلطة الحاكمة أو الدولة القومية العلمانية، أو العدو الخارجي، وبهذا يراد إنتاج خطاب ديني يضعف الأمة، ويساعد على الهيمنة عليها وتغريبها.
التدين المنعزل
تلك العملية في مجملها يُراد منها عزل الدين عن الحياة، وعزل حالة التدين عن التأثير على الحياة، وعزل الدين كلية عن المجال العام والمجال السياسي؛ وبهذا يصبح الدين حالة فردية منعزلة عن الحياة ولا تؤثر عليها؛ ما يمكِّن الدولة القومية العلمانية من فرض سيطرتها على المجتمع، ومن ثم تفرض السلطة الحاكمة والنخب العلمانية سيطرتها أيضًا، ويتم ذلك تحت غطاء من الحماية الغربية، والتي ترفع شعار تجديد الخطاب الديني، وتؤيدها السلطة الحاكمة والنخب المتحالفة معها، وأيضًا النخب العلمانية، وتكتمل تلك العملية بمحاولة إنتاج خطاب ديني جديد بالكلية، هو في الواقع ليس تجديدًا للخطاب الديني بل علمنة له، ويصبح هذا الخطاب هو الذي يحمي الأوضاع القائمة، ويواجه الحركة الإسلامية من داخل مرجعيتها.
ولكن ما يغيب عن تلك المحاولات هو حقيقة هامة؛ فالمرجعية الدينية لها قواعدها وقيمها وأسسها، وكل محاولة لاختراقها سوف تفشل في النهاية، ولكنها تنشر الفتنة لفترات تطول أو تقصر، حتى يتضح زيف الخطاب الجديد ويسقط.

1 commentaires:

بارك الله فيكي ونفع الله بكي مقال تحليلي وتفصيلي في نفس الوقت سلط الضوء بدقة عاليه على مخاطر سيطرة الانظمة العلمانية على الخطاب الديني والمؤسسات الدينية في البلدان العربية خاصة ونلاحظ ان محاولات عمليات السيطرة لازالت مستمرة خاصة مع هده الحركات الاسلامية الصاعدة في بلدان بعد لثورة كمصر وتونس فحركة الننهضة والاخوان المسلمون وصلوا الى حد القتال ورفع الاسلحة نسال الله ان يوحد صفوف المسلمين

 

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...