لماذا يركز الغرب ويدعم مؤسسات المجتمع المدني؟


مفهوم "منظمات المجتمع المدني" هو مفهوم ملتبس يشابه في التباسه مفهوم "العولمة". أنا لا ارتاح لهذا التوصيف الذي يراد له ان يكون بديلا عن مفهوم المنظمات الشعبية والجماهيرية المنخرطة نضاليا في عملية التغيير. كما لا بد من توضيح مسألة هامة أخرى هي ان ما يسمى "المجتمع المدني" ليس جسما موحدا ولا يشكل نقيضا او بديلا او حتى حالة موازية للسلطة، فهو اسم ضبابي يطلق على مجموعة من الفعاليات التي تتحرك بمصالح مختلفة بل ومتضاربة في كثير من الاحيان، وتتحرك بدرجات مختلفة من الاستقلالية عن (أو التبعية لـِ) السلطة او الحكومات أواجندات الدول الامبريالية التي تمول نشاطات العديد من المنظمات التي قد تنضوي تحت هذا التعريف.


وهنا تبرز مجموعة من المؤسسات الفردية المسجلة كشركات غير ربحية (وهذا تدليس صريح لان القائمين عليها "يربحون" اموالا طائلة) وتحمل اسماءا كبيرة مثل حقوق الانسان والديمقراطية وحرية الصحافة وحقوق المرأة والطفل وغيرها من العناوين الجزئية، كممثلة لما يسمى "المجتمع المدني" وهي محض مؤسسات يملكها أفراد وليس لها هيئات عامة ولا انتخابات وتتمول من السفارات والمصادر المشبوهة.

ان مثل هذه المؤسسات بحكم ارتباطاتها التمويلية ترضخ لرغبات مموليها ومفاهيمهم واجنداتهم، فاذا عرفنا مثلا ان احد أكبر مصادر التمويل هو الـUSAID يتبع للادارة الامريكية، وان سفارات الولايات المتحدة وبريطانيا تدفع تمويلا لمثل هذه المؤسسات، وان منظمة مرتبطة بالمخابرات الامريكية مثل فورد فاونديشين هي من أهم الممولين لمثل هذه المؤسسات، اضافة الى منظمات تابعة لاحزاب المانية مثل مؤسسة كونراد اديناور ومؤسسة فريدريش ناومان ومؤسسة فريدريش ايبرت ومؤسسة هاينرش بول، وغيرها وغيرها؛ نستطيع الاستنتاج بكل اريحية ان مثل هذه المؤسسات هي ليست مؤسسات "مجتمع مدني" بل هي مؤسسات مرتبطة باجندات وأهداف مموليها.

وتلعب مثل هذه المؤسسات ادوارا خطيرة جدا: فهي تقوم بالابحاث والدراسات لصالح الممولين موفرة لهم معلومات استخبارية هامة مثل توجهات الرأي العام وأدوات التأثير فيه ومحدداته..الخ؛ كما تقوم بترويج مفاهيم ومصطلحات تخدم الهيمنة وتؤسس لانتصارها مثل "الشرق أوسطية" و"الشرعية الدولية" و"اللاعنف" و"حل النزاعات" و"حل الدولتين" فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية و"التعايش والسلام" والمقصود هو الاستسلام طبعا؛ كما تتناول القضايا بشكل معزول عن سياقها العام فتتناول مثلا الديمقراطية دون الاشارة الى الاحتلال وبهذا تفتت القضايا الى جزئيات منفصلة بلا سياق؛وأخيرا فان الكثير من هذه المؤسسات يدعم الاحتلال ويساعده ويخفف كلفه تحت غطاء العمل الانساني وبهذا فهو يساعد على اطالة أمد الاحتلال ويسهل مهامه، ولا ضير من شرح هذه النقطة الهامة: المعروف ان الهدف من اية مقاومة هو تكبيد الاحتلال أكبر ما يمكن من الخسائر بحيث تصبح الكلفة المترتبة على الاحتلال اعلى من العوائد الناتجة عنه، والمعروف في القانون الدولي ان اية قوة محتلة لبلد آخر تكون مسؤولة عنه بالكامل من حيث توفير جميع الخدمات والادارة وغيرها، هنا تدخل المنظمات غير الحكومية (الـ NGOs) ومؤسسات ما يسمى بالمجتمع المدني فتبدأ بتنفيذ برامج صحية أو أخرى تتعلق بشبكات المياه أو الصرف الصحي أو غيرها، هذا يزيل اعباء كبرى عن قوة الاحتلال ويوفر عليها مصاريف مالية وبشرية كبيرة مما يقلل كلفة الاحتلال على القوة المحتلة ويطيل أمد الاحتلال ويساعده، ونماذج مثل هذه المنظمات موجود في العراق وفلسطين بكثرة.

تظل المجتمعات العالمثالثية، ومنها المجتمعات العربية، منطقة جذب هام لجميع أنواع الاختراقات والتجارب. ومن السهولة بمكان أن تقوم قوى العالم الامبريالية ببعثرة بعض الدولارات هنا وهناك، لتخلق بها مراكز أبحاث وبرامج تنمية وحملات سياسية/اجتماعية من كل الأشكال و الألوان، وكل هذا لا يصب قطعا في مصلحة دول الأطراف هذه، ولا يقع في باب العطف والحنان الإمبريالي، فالقانون الموضوعي يقول أن الإمبرياليات تمتص ولا ترشح، وهي من القسوة بحيث تقدم الأرباح على الإنسان والمكان وغيرهما، ولذلك فما مراكز الأبحاث والدراسات ومؤسسات "المجتمع المدني" الممولة أجنبيا إلا أماكن لملء الفراغات في الخطط الاستراتيجية المرسومة في دوائر البنتاجون والCIA وغيرهما، وما برامجها المحفزة للديمقراطية أو حقوق المرأة أو تنظيم الأسرة أو غيرها إلا انسلاخا عن القضية الأساسية بتشابكاتها المعقدة، وتسليعها في سياق أشبه ما يكون بتسليع "العولمة" للإنسان.

ومن الملفت أيضا ملاحظة سلوك الإمبرياليات الكبيرة من حيث عدم اكتفائها باختراق النخب والقيادات في مختلف الصعد والقطاعات، بل التحول إلى اختراق القواعد والشعوب بآليات "التسويق الاجتماعي"، مثلا: برنامج من نمط "إنجاز" وجمعية على شاكلة "الرواد الشباب" (والممولان كلاهما من الـUSAID لاجل الصدفة!) معنيان بإيجاد جيل كامل من الشباب المؤدلج رأسماليا، والمأخوذ بنمط السوق الحر و"العولمة" بأشكالها الهمجية المعاصرة كنهاية للتاريخ. فهل من ايجابيات نستطيع الحديث عنها بعد كل ذلك؟! وهل نستغرب كل هذا الحديث من القوى الامبريالية عن "مجتمع مدني" هو في حقيقة الامر مجتمع مفتت وتابع يراد ان تمثله مؤسسات تقبض من الامبريالية نفسها؟!!

0 commentaires:

Enregistrer un commentaire

Related Posts Plugin for WordPress, Blogger...